مقدمة لا بد منها:
يتهمنا بعض السذج ممن يقرؤون ولا يفهمون ممن تلبس بالعلم وهو منه براء أننا نعطل النصوص ونعمل العقل فنجعل العقل حكما على النص، وهذا تدليس منهم وتلبيس على العامة الدهماء ممن لا ناقة لهم في العلم ولا جمل بغرض تنفيرهم عن الحق الذي لا مرية فيه، والخلاف الذي يدور بيننا هو خلاف في فهم النصوص وتخريجها التخريج الحسن ليوافق فيها المنقول المعقول، والمعقول المنقول، فلا يجوز الاضطراب فيما صدر عنه سبحانه، فالقطعي العقلي لا يجوز أن يخالف القطعي النقلي، كما لا يجوز للقطعي النقلي أن يخالف القطعي العقلي.
مقدمة عقلية في التفريق بين عالم الخالق وعالم المخلوق
اعلم رحمك الله أن هذه المقدمة كان لا بد من تقديمها على غيرها لتعلقهم بها وعدم تعلقها بغيرها .
إن المفارقة بين عالم الخالق (اللاهوت) والمخلوق (الناسوت والجبروت والملكوت) بديهية فقد دلّ عليها العقل بالقطع المطلق، كما دلّ عليها النقل الصحيح القطعي الذي يحمل عليه غيره ولا يحمل على غيره.
1- دلالة العقل على المفارقة بين الخالق والمخلوق (سننهج نهج العقلاء في الإستدلال):
اعلم أن الموجودات من حيث هي هي تنقسم باعتبار تعلق وجودها بغيرها عقلا إلى:
أ- موجودات تعلق وجودها بغيرها.
ب- وموجودات لم يتعلق وجودها بغيرها.
ويلزم عقلا من هذه القسمة:
1- توافر أسباب الوجود كلها في التي لم يتعلق وجودها بغيرها.
ب- هذه الأسباب ذاتية فيه، لأنها لو كانت عارضة عليه للزم اكتسابه صفة الوجود بعد أن لم تكن فيه، ولرجع إلى من تعلق وجوده بغيره لا أن يكون وجوده قائما به.
ت- أسباب الوجود الذاتية فيه ملازمة له وإلا استحال من موجود إلى معدوم.
أقول: وهذا النوع من الوجود من حيث (هو هو) يجيزه العقل ولا يوجبه خلافا لما يتوهمه جملة من العقلاء؛ لأن وجوبه وجب لتعلق غيره به، وأما العدم المطلق فيجيزه العقل ولا يوجبه.
ث- يلزم في الموجود الذي تعلق وجوده بغيره أن تكون علة وجوده في غيره لا انفكاك له عنها، فالعقل يجيز وجوده إّذا وجدت علته، و يحيل وجوده إن لم توجد علته، وهذا النوع من التعلق يسميه الفلاسفة بوحدة الوجود والموجود، أي وحدة التعلق في الوجود، لا أن يكون الذي فعل الإيجاد عين من فعل فيه الإيجاد وهو القول بوحدة الوجود المستهجن ، والقول بهذه الوحدة المستهجنة قول شاذ عند بعض الفلاسفة لأنه يخالف العقل الصحيح في قسمة الشيء الواحد إلى واجب له الكمال المطلق لمطلق الكمال وممكن يعرض عليه النقص.
أقول: إن وجود الموجود الذي تعلق وجوده بغيره دليل على وجود الموجود الذي لا يكون في وجوده عالة على غيره وإلا لزم التسلسل، والتسلسل ممتنع عقلا فامتنع خارجا، ومن تمّ وجب وجود الموجود الذي لم يتعلق وجوده بغيره لوجود الموجود الذي تعلق وجوده بغير [ وجوب واجب الوجود يدركه العقل لوجود ممكن الوجود].
فإن استقرت هذه المقدمات العقلية نفرع عنها:
– عدم العلية تدل على الأولية التي لا ابتداء لها، إذ لو كان له ابتداء لكان عالة في ابتداءه على غيره.
– عدم العلية تدل على الآخرية لا انتهاء لها، إذ لو كان له انتهاء لكان فاقدا لكمال هو له أوجب له الفناء
– عدم العلية توجب الكمال المطلق لمطلق الكمال حتى لا يكون عالة على غيره في أي كمال من الكمالات من حيث جنسه أو كماله [ وبه نحكم أن صفات الكمال لله سبحانه واجبة بالعقل]
– الأولية تلزم أن كل ما سواه مخلوق له سبحانه، ومما سواه المكان والزمان فهما مخلوقان لله تعالى [وليسا أزليان ابديان كما يصورهما المشبهة والمجسمة]، وواجب الوجود ممتنع عليه أن يكتسب ما لم يكن له، أو يفقد ما هو له مما يتعلق بوجوده عقلا، [ لهذا قال سادتنا لا يجوز على الله العوارض أي ما يعرض عليه مما يتعلق بوجوده].
– عدم العلية تلزم امتناع كل العوارض التي تشعر بنقصٍ واحتياجٍ إلى غيره، فأنكروا حديث الأطيط وظاهر الاستواء والنزول ووو مما يشعر بالاحتياج الذي لا يليق بواجب الوجود في الاضطرار إلى المكان، والعجيب أن الحشوية ينكرون مرور الزمان على الله ولا يستشكلون قول الله تعالى { ثم استوى على العرش} { فسواهن سبع سموات في يومين} { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} وكلها تشعر بالزمان بل صريحة فيه ، ويثبتون القول في المكان، والقول فيهما وحد، ما يقال في الزمان يقال في المكان، فالقطعي العقلي ينفيهما عن الله تعالى وهم يثبتون الحد لله تعالى لما ثبت في المكان، ولا يثبتون له التراتبية الزمانية لما ثبت في الزمان، ثم يقولون التحقيق ].
ومما لا خلاف فيه عند عموم أهل السنة أن الله لا يحويه مكان ولا يمر عليه الزمان فعالم اللاهوت (الخالق) لا يحكم بمعلم الزمان والمكان خلافا لعالم المخلوق المحكوم به، ولو التزم العقلاء من العلماء بهذه لكفتهم، ولألزمتهم على الإمساك عن عالم لا شيء يجمعنا به سوى الكليات .
إذا كان الأمر كذلك أقول: إن التفريق بين عالم اللاهوت والناسوت مسلمة صحيحة يقطع بها العقل، فكل ما تعلق به سبحانه فهو فيه واحد لا يجوز أن يشاركه فيه غيره، وهذا معنى التوحيد الذي نقله العلامة ابن تيمية عن إمام الهدى الجنيد عندما سئل عن التوحيد فقال: هو المفارقة بين الخالق والمخلوق.
والتفريق بين الصفات والذات مسألة يتصورها العقل البشري القاصر في عالم المخلوق ولا يستطيع أن يعقلها بحال من الأحوال في عالم الخالق لاختلاف المعلم الذي يحكمهما، ولا مقدمات لنا عليها نستطيع من خلالها النظر، لهذا لزم أن ننهج منهج أهل السنة في الصفات وهو أن نثبت لله كل كمال لا نقص فيه مما ورد، ونسكت ونكل علم ما ورد مما يوهم شبهة النقص إلى الله تعالى، ونقطع أن كل ما وصف به نفسه هو عين الكمال، وقد انتهج بعض المتأخرين نهج التأويل بصرف الظاهر الذي يوهم النقص بما يجوز على الله تعالى من الكمال مما يتحمله اللفظ من التأويل.