إسقاطات على القول بالظاهر – رابعا الرجل والقدم –
اعلم رحمك الله أنّ من المسائل التي خالف فيها الحشوية المجسمة مسألة إثبات الرجل على ظاهرها، وقد استدلوا فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة (فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطٍ قَطٍ قَطٍ)، وحديث أبي هريرة مرفوعا: (يقال لجهنم : هل امتلأت، وتقول : هل من مزيد، فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط)، وفي الرجل والقدم أيضا يستدلون بحديث: (…أن محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد من دونه ستر من لؤلؤ، قدميه، أو قال: رجليه في خضرة)، وفي القدم لوحدها بالتثنية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الكرسي موضع القدمين ).
أقول: قال ابن فارس في معجم المقاييس: (الراء والجيم واللام مُعظم بابِه يدلُّ على العُضو الذي هو رِجْلُ كلِّ ذي رِجْل، ويكون بعد ذاك كلماتٌ تشِذُّ عنه. فمعظم الباب الرِّجل: رِجْلُ الإِنسانِ وغيره… رَجَلْتُ الشَّاةَ: عَلَّقْتُها برجلها، ويقال: كان ذاك على رِجْلِ فُلانٍ، أي في زمانِه، والأرجَل من الدوابِّ: الذي ابيضَّ أحَدُ رِجْليه مع سوادِ سائرِ قوائمه؛ وهو يُكْرَه، والأرجَلُ: العظيم الرِّجْل، ورجلٌ رَجِيلٌ وذُو رُجْلَةٍ، أي قويٌّ على المَشْي، ورَجِلْتُ أَرْجَل رَجَلاً، وترَجَّلْتُ في البئر، إِذا نزَلْتَ فيها من غير أن تُدَلَّى، وارتَجَلَ الفَرَسُ ارتجالاً، إِذا خَلَط العَنَق بالهَمْلَجةِ، وأرْجَلْتُ الفصيلَ: تركْتُه يمشِي مع أمِّه، يرضَع متى شاء).
أقول: تستعمل مادة رجل حقيقة على العضو المعروف، وقد يشتق منه الفعل لصدوره عنه أو تعلقه به فيقال رجلت الشاة إذا علقت رجلها، ورجلته إذا أصبت رجله ككليته وبطنته ورأسته، وأرجلت رجله إذا عظمت كعجزت المرأة أي كبرت عجيزتها، ويقال أرجل فلان أي سار على رجله، وترجلت مشيت راجلا وترجلت في البئر نزلت فيه لتصيب رجلي قعره، وإطلاقها على غير هذا قليل جدا.
فكلمة (الرجل) لا حقيقة لها إلا العضو، ولا مجاز لها إلا ما صدر عن هذا من الأفعال أو التي تعلقت به .
وأما (القدم) فقد قال الجوهري في الصحاح: (والقَدَمُ: واحد الأقدام، والقَدَمُ أيضاً: السابقةُ في الأمر. يقال: لفلان قَدَمُ صدقٍ، أي أثرةٌ حسنةٌ. قال الأخفش: هو التَقْديمُ، كأنَّه قَدَّمَ خيراً وكان له فيه تَقْديمٌ).
وقال الفيروزبادي في القاموس: (…وفي الحديثِ: “حتى يَضَعَ رَبُّ العِزَّة فيها قَدَمَهُ” أي: الذينَ قَدَّمَهُم من الأشْرارِ، فَهُمْ قَدَمُ الله للنارِ، كما أنَّ الأخْيارَ قَدَمُهُ إلى الجَنَّةِ، أو وَضْعُ القَدَمِ مَثَلٌ للرَدْعِ والقَمْعِ، أي: يأتيها أمْرٌ يَكُفُّها عن طَلَبِ المَزيدِ).
وقال ابن فارس في المعجم: (القاف والدال والميم أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على سَبْق ورَعْف ثم يفرَّع منه ما يقاربُه: يقولون: القِدَم: خلاف الحُدوث).
أقول: مادة (قدم) تدل على السبق والأولية، ومرجع الأولية إلى السبق غالبا، ولعل إطلاق القدم على الرجل لكونها سبب في التقدم، أو أنها أول ما يتقدم منه عرفا.
وقد نحى المعجميون في تفسير الحديث منحيين اثنين، فمنهم من جعل القدم من التقدمة أي ما يقدمه رب العزة ممن هم من أهل النار حتى تقول جهنم قط قط أي كفاني، ومنهم من نحى أن هذا أسلوب عربي فصيح لا زال قائما إلى الآن يدل على أن وضع الرجل تدل على القهر والتمكين فكان خطابه سبحانه بما هو متعاهد عليه عند المخاطبين لجوازه عرفا لا ما عليه الأمر على ما هو عليه، وسيأتي بيان منحى المؤولة في حلقات تخصها.
ومهما يكن فليس (للرجل) من معنى ظاهر غير الجارحة وما يصدر عنها من الأفعال أو تعلقت بالرجل، فكان الظاهر الملزم لمن قال به فيها (الجارحة)، وقد نقل الحظر على القول بها فلزم التأويل أو التفويض وإلا فالتشبيه لازم.
ستأتي مسألة الاستدلال بالأحاديث الظنية في باب الاعتقاد، وما السبيل حال مخالفة الظني النقلي القطعيَ العقليَ في حلقات تخصها.
وبارك الله فيكم، أسأل الله أن يوفقنا للخير كله