المبحث الأول: الردّ على من قال إن القول في الذات كالقول في الصفات.
عليةُ المبحثِ وعُلقته بمسألة الصفات: أورد العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى في (1/23) من كتاب شرح حديث النزول بعد أن استدل استدلالا صحيحا على الأوصاف والأفعال ما نصه: (وتبين له أن القول في بعض [صفات الله] كالقول في سائرها، وأن القول في صفاته كالقول في ذاته، وأن من أثبت صفة دون صفة مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشاركة أحدهما الأخرى فيما به نفاها، كان متناقضًا)، وفي التدمرية (20 بترقيم الشاملة) قال رحمه الله بعد أن استعرض جملة من الصفات والأفعال بقوله: (ووصف نفسه بالتعليم ووصف عبده بالتعليم فقال : {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ }، وقال : {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ }، وقال : {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }، وليس التعليم كالتعليم، وهكذا وصف نفسه بالغضب، فقال : {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ }، ووصف عبده بالغضب في قوله {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا }، وليس الغضب كالغضب، ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ }، وقوله : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ }، وقوله : {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ }، وليس الاستواء كالاستواء) ، قال رحمه الله تعالى: (ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال : {وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء }، ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } وليس اليد كاليد) وكان الأولى به أن يقول وليس (البسط كالبسط) لا (اليد كاليد) لعدم جواز طرد القول في اليد على القول في الصفة لاختلافهما تأصيلا الموجب للاختلاف في التفريع.
وسيكون ردّنا لكلامه رحمه الله تعالى في أول مبحث بالمعقول والمنقول، ولكون إخوتنا ممن تلبس بالمذهب الحشوي يتحسسون من المعقولات فسأنقل كلاما للعلامة ابن تيمية رحمه الله يقرّر فيه هذا النهج الذي نعالج كلامه به، فقد قال رحمه الله في كتاب شرح حديث النزول: ((لهذا يؤول بهم الأمر إلى الجمع بين النقيضين، أو الخلو عن النقيضين) (1/17) مقررا لقاعدة (المحل القابل للوصف إما أن يقبلها أو يقبل نقيضها) أو ما يعرف ( النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)، وقال أيضا في التدمرية (12 بترقيم الشاملة): (ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات)، وقال في التدمرية (10 بترقيم الشاملة): (فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهات)، بل كلّ كلامه في مقدماته في الصفات إما منطقية أو فلسفية كمباحث الوجود والعدم، والوجود الذهني والخارجي وإن سماها بغير اسمها.
فنقطة البحث في هذا المبحث بيان أن القول في الصفات لا يطرد على الذوات، لأن طرد القول فيهما يلزمه التشبيه ولا مفر لمن قال به من التشبيه والحشو والتجسيم، والمسألة وإن كنّا نخالف فيها العلامة ابن تيمية رحمه إلا أننا نحفظ له قدره ولا نطعنه بل نقول: هو علامة فهامة لم يوفق في هذه النقطة من مبحث الصفات، وهو يخالف المتأخرين من المتسلفة الذين يعالجون التشبيه الصراح وهم يتلبسون به ومنهجه براء من منهجهم.
– الباب الأول: القول في الصفات يباين القول في الذات عقلا ونقلا:
الدراسة اللغوية لبيان وجه التفريق بين الأوصاف والذوات:
ينقسم الاسم في اللغة إلى أربعة أقسام، فقد قال ابن مالك في التسهيل: وهو لعين أو معنى اسما أو وصفا، وقد نظم ولد بونة هذه العبارة فقال:
وهو لعين أو لمعنى وهو في *** حاليه وصفا وسما أيضا يفي
ولو نشاء تفصيل هذا القول نقول: لنا أن ننظر في المسألة نظرة عقلية ونخرجها بالتلازم العقلي، ولنا أن ننظر فيها نظرة عرفية ويكون الاستقراء حَكَمًا فيها، فمن الأولِ انحصارُ المخلوقات في أعراض وجواهر، والعرض قد ينظر إليه على كونه عارضا من حيث (هو هو)، أو من حيث عروضه على غيره، والجواهر ما تعين من الأجساد خارجا، والأعراض هي كل ما عرض على الجواهر من الأوصاف خارجا، وقد نعتبر العرض من حيث (هو هو) فيكون ذهنيا ولا وجود له في الخارج إلا مشخصا، والوجود الذهني كلي كما هو معلوم عند العقلاء ولا خلاف في ذلك، ولما كان الكلي مفهوما: هو ما تعددت مصاديقه خارجا، انقسم باللزوم إلى كلي مطلق لم يرد عليه التقييد وهو المتعارف عليه عند المناطقة باسم الجنس، وكلي مقيد عرض عليه عارض التقييد ولم يعين وهو ما يعرف بالنوع والصنف عند المناطقة، والأصل في تقييد الكليات الأوصاف كما بينت ذلك في موضع آخر.
وبما تقدم تحصل عندنا: العينُ، وما تعرض على العين من الأوصاف، والعرض المطلق، والعرض المقيد، فالعين هي اسم العين، وما يعرض على العين هي: وصف العين، والعرض المطلق اسم المعنى، والعرض المقيد وصف المعنى.
وإذا رجعنا إلى الاستقراء فسنجد هذه الأربعة دون ما سواها، فيوافق التأصيل العقلي الوجود العرفي، وقد قرر الأئمة ذلك بلا نكران، فقد أوردها ابن مالك رحمه الله في التسهيل وسبك المنظوم وفك المختوم، وتبعه على ذلك أبوحيان الأندلسي.
فالذات تباين الصفات وهي قسيمة لها في مسمى الاسم وليست منها، وهذه البديهية التي حاول البعض التشكيك فيها ببعض العمومات التي لا وجه لها في المحاججة قد فرع عليها بعضهم مذهبه العقدي فأطلق على العين اسم الوصف ثم حاول أن يطرد القول فيهما، بل حاول أن يطرد القول في الصفات على القول في الذات وهو خطأ في التأصيل سيبنى عليها تفريع خاطئ، وسيكون النظر لزوما مخالفا للحق ومجانبا للصواب والله تعالى أعلى وأعلم .