تتمة للحلقة الخامسة: المفارقة بين الخالق والمخلوق في المنقول:
اعلم رحمك الله أن المفارقة بين الخالق والمخلوق والتفريق عالمي بين اللاهوت والناسوت قد جاء بها النقل كما دلّ عليها العقل، وقد أوردنا أدلة عقلية لا تدفع ولا ترد في باب المعقولات، والآن سأقدم لكم – سادتي الكرام – أدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعضد ما أوردته في باب المعقولات وتصدقه، وأردفها بآثار السلف من الصحابة والتابعين حتى لا أترك مجالا للتردد، وسأردفها بمبحث نفيس أخرّج فيه المسألة تخريجا تدفع عنها كل شبهة تشبيه.
الآيات القرآنية الدالة على التوحيد:
- سورة الإخلاص وهي (نص) في التوحيد لهذا سميت سورة الإخلاص: {قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن كفؤا أحد}
أ- أقول: فهو سبحانه {أحدٌ} اللفظ كلي من حيث (هو هو)، كلي من حيث تعدد مصاديقه، وهو مستغرق لكل الأفراد الممكنة لأنه لم يخصص ولم يراد به التخصيص، فهو لفظ مطلق وعام، فهو سبحانه واحدٌ في كل شيء، ولا يجوز لغيره أن يشركه فيما هو له، وسيأتي التفريق بين الأعيان والأعراض الخارجية من جهة، والمعاني المطلقة الذهنية من جهة أخرى.
ب- قوله: {الصمد}، والصمد كما عرفه أهل اللسان العربي:
1- ابن فارس في المعجم: ((الصاد والميم والدال) أَصلان: أحدهما القَصْد، والآخَر الصَّلابة في الشَّيء.فالأوَّل: الصَّمْد: القصد. يقال صَمَدْتُه صَمْداً).
2- ابن منظور في اللسان: ((الصَّمَد)، بالتحريك: السَّيِّدُ المُطاع الذي لا يُقْضى دونه أَمر، وقيل: الذي يُصْمَدُ إِليه في الحوائج أَي يُقْصَدُ).
3- الجوهري في الصحاح: ((والصَمَدُ) السيِّدُ، لأنّه يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ).
أقول: إن الله جلّ وعلا في هذه الآية الكريمة قرّر ما ذكرناه قبلُ في كونه واجبَ الوجود، وهو غير عالة فيه على غيره، فهو يُحتاج إليه ولا يَحتاج إلى غيره، لتعلق وجود ممكن الوجود به، ولم يتعلق وجود واجب الوجود بغيره، وقد ذهب العلامة ابن تيمية إلى أن (الصمد) هو نقيض (أجوف) وهذا وإن كان جائزا لغة إلى أن تفسير الآية بما ذكرت للدلالة على الوحدانية الخالصة أولى لاتصاف الملائكة بالصمدية على تفسير العلامة ابن تيمية أيضا.
فقد قال رحمه الله في كتب ورسائل وفتاوى (17/226): (ولفظ الصمد يقال على ما لا جوف له في اللغة، قال يحيى بن ابى كثير : الملائكة صُمد والآدميون جوف ، وفي حديث آدم أن ابليس قال عنه أنه اجوف ، ليس بصمد).
ت- قوله سبحانه: {لم يلد، ولم يولد} تأكيد لوحدانيته في كل شيء، وأنه سبحانه صمد يُحتاج إليه ولا يحتاج إلى غيره، بل غيره مضطر إليه، ومن مظاهر أنه سبحانه واحد في كل شيء عدمية صفة الولادة فيه، فهو لم يولد فيكون عالة على غيره، ولم يلد فيكون له من يشاركه في بعض أوصافه.
ث- قوله عز وجل: {ولم يكن له كفؤا أحد} تأكيد على وحدانيته ونفي النظير .
- قوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} والآية نص في نفي مثيل مثيله ، وهو متصف بوصفي السمع والبصر.
قد يقول المخالف: أنت تناقض نفسك، لأنّ الآية تثبت وصفي السمع والبصر، وتنسب الشيء إلى الله تعالى.
فأقول: ذلك الذي يتوهمه المشبه من الآية، والآية صريحة في التنزيه ولنا أن نستدل على ما نقول بـ:
إثبات السمع والبصر وهما معنيان مطلقان (مشترك مطلق كلي) معروفان لغة، فالسماع هو إدراك للمسموعات، والإبصار هو إدراك للمبصرات، وهذه معان مطلقة لا نعرفها على ما هي عليه لجلهنا به سبحانه، فقد ذكرنا سابقا أن المعاني المطلقة لا وجود لها في الخارج إلا مشخصة بعروضها على الجواهر في عالم الناسوت، فنحن نعلم أنه سميع بصير ولا ندرك كنه سمعه ولا كنه بصره، ولا نقول يسمع بأداة، كما لا نقول أنه يبصر بأداة، فهي عوارض عالم اللاهوت الذي لا نعلم كنهه فوجب التفويض فيما لا يعلم مدخله ولا مخرجه، وقد دلّ على تأصيلي في الباب المنقول والمعقول، وهذا هو فهم السلف في الباب.
قد يقول المخالف: أنت أرجعت صفتي السمع والبصر إلى العلم لكونك علقتها بالإدراك، (وهذه شبهة بعض المشبهة).
فنقول له: وهل معنى السماع والإبصار عندك ليس إدراكا للمسموعات والمبصرات، وهل العلم الحسي إلا إدراك بالحواس للمحسوسات.
وأما معنى الشيئية في قوله تعالى: { ليس كمثله شيء}، فليست صريحة في نسبتها إليه، ذلك لعدم التلازم بين جنس المشبه والمشبه به، فقد يكون الجامع المتوهم بينهما المراد نفيه وصفا، وهو مراد الآية بلا شك، فهو لا يريد في نفي الشيئية، بل يريد نفي أن يكون شيئا من الأشياء مثله سبحانه جلّ عن الندّ والنظير والشبيه والمثيل والكفؤ.
- قوله تعالى: {رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا}.
أقول: وهذه الآية من جنس الآيات الواردة في الإلزام بالربوبية على الألوهية، ولكون ربوبية الرب بديهية عند المخلوق ألزمه بها ربي على أن يعبده دون ما سواه، لهذا قال سبحانه {هل تعلم له سميا} أي هل تعلم له ندًّا أو نظيراً أو سميًّا.
أقول: لو نأتي نستقرأ القرآن والسنة حول مباينة عالم اللاهوت لعالم الناسوت لكلت دون ذلك الهمم وضعفت، وفيما ذكرت كفاية لمن يتعبد الله لا الناس، ويكون العلم سبيله لا الجهل والعصبية العمياء التي جاء الإسلام لهدمها من أساسها.
وليتأكد كل من يطالع ما أكتب في هذا الباب أننا نحن دعاة التوحيد، وأننا نحن المنزهة، وأننا نحن أهل السنة، وأننا نحن أتباع الأنبياء، وأننا نحن أتباع السلف الصالح.