الخلط في الماهيات من موجبات النظر الفاسد:
لم يجقق جمع من الفضلاء القول في ماهيات بعض ما تعلق بالأدوات أو الأحكام في مسألة الصفات فأوجب ذلك تنفيرا شديدا من مذهب أهل الحق الذي لا زالت عليه الأمة قديما وحديثا، بل جرّأ بعض العامة على الحكم على أهل الحق بالباطل بعين حقهم الذي هم عليه بمنطق قوم لوط في آله عندما قالوا: { وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون }، فلزم على الناظر في الصفات أن يدقق ويحقق بتجرد القول في كل مصطلح تعلق المبحث به حتى يصح نظره ويخرج من الخلاف الذي قد يتلبس به وهو خلاف صوري لأنه خلاف لا في موضوع واحد، أو أنه يتوهم معنى ما من بعض الاصطلاحات ما لا يريده من أوقعها فيحكم عليه بتصوره هو لا بقصد موقعها، وهذه النقطة ستندرج تحتها نقاط متعددة تعلقت جميعها بالمبحث الذي نعالجه.
ومن تلك المصطلحات (التفويض):
ذهب بعض الفضلاء إلى جعل التفويض مرادفا للتعطيل، ثم التعطيل تخوية وإخلاء فالتعطيل وباللزوم التفويض هو إفراغ النص من مدلوله على مفهومهم.
وعامة من فسر التفويض بهذا التفسير لا يعرض على المعاني المفوضة ووجه التفويض فيها عند من قال به بل يتكلم على التعطيل ومساوئ التتعطيل وأنّ المفوضة لما ألزمو بقطعية الثبوت اشتغلوا على ظنية المدلول حتى يردوا النص، وهذا أمر خطير جدا تعلق بجحود الحق البين ورده على زعمهم وهو كفر صراح لا مرية في كفر من تلبس به.
وهذا كله راجع إلى الإجمال الموهم، ولا مجال لرفع الإيهام إلا بالتفصيل، وللتفصيل نقول:
لا نسلم أولا أن التفويض هو التعطيل لغة، ولا نعرفه اصطلاحا شرعيا خارجا عن العرف اللغوي عند من قال به تأسيسا.
قال صاحب اللسان ابن منظور: (فوّض: إِليه الأَمرَ: صَيَّرَه إِليه وجعَلَه الحاكم فيه).
قال ابن فارس في المعجم: (الفاء والواو والضاد أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على اتّكال في الأمر على آخَر وردِّه عليه، ثم يفرَّع فيردّ إليه ما يُشبهه. من ذلك فوَّضَ إليه أمرَه، إذا ردَّه. قال الله تعالى في قصّةِ من قال: {وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلى اللهِ}. ومن ذلك قولُهم: باتوا فَوْضَى ، أي مختلطين، ومعناه أنّ كلاًّ فوَّض أمرَه إلى الآخَر…).
وهو قول صاحب القاموس والصحاح ولا نعرف في المسألة خلافا.
فالتفويض هو رد الأمر إلى أهل الخبرة فيه ومنه كما قال ابن فارس مستدلا بقول الله تعالى: {وأفوض أمري إلى الله}، ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ذكر القدر فأمسكوا، أي فوضوا لا أن تنفوا لأن الإيمان بالقضاء والقدر على وجه الإجمال شرط الإيمان الفاصل بين الإسلام والكفر.
قال الجوهري في الصحاح: (والعَطَلُ أيضاً: مصدر عَطِلَتِ المرأةُ وتَعَطَّلَتْ، إذا خلا جيدها من القلائد، فهي عُطُلٌ بالضم، وعاطِلٌ ومِعْطالٌ.
وقد يستعمل العَطَلُ في الخلوِّ من الشيء وإن كان أصله في الحُليّ، يقال عَطِلَ الرجلُ من المال والأدب فهو عُطْلٌ وعُطُلٌ.
وقوسٌ عُطُلٌ أيضاً: لا وترَ عليها.
والأعطالُ من الإبل: التي لا أرسانَ عليها).
قال ابن فارس في المعجم: (العين والطاء واللام أصلٌ صحيحٌ واحدٌ يدلُّ على خلوٍّ وفَراغ. يقول: عُطِّلت الدارُ، ودارٌ معَطَّلة ومتى تُركت الإبلُ بلا راعٍ فقد عُطِّلت،وكذلك البئر إذا لم تُورَدْ ولم يُستَقَ [منها]. قال الله تبارك وتعالى: {وبِئرٍ مُعَطَّلةٍ}).
أقول: التعطيل تفريغ، وتخلية من التحلية، والتفويض رد الأمر إلى الغير، أي إيكال الأمر إليه، ولما تعلقت مسائل الصفات أو ما تشابه منها بمسائل العلم لأنها من باب الإيمان نعرف التفويض بـ: إيكال علم ما لم تعلم إلى من يعلم وهو الله.
فأين التفويض من التعطيل، والتعطيل كما ذكرت سابقا كفر لمن قال به فيما ثبت ظاهره بلا شبهة نقص وكان قطعيا في الوصفية.
نقطة بحث:
ما هو الدافع الذي دفع العلامة ابن تيمية رحمه الله إلى ربط الترادف بينهما على وجه التلازم؟.
أقول: قد أصاب ابن تيمية الحق في رده على بعض الفلاسفة الذين جعلوا وجود واجب الوجود وجودا مطلقا، وهو تناقض صريح منهم ومفضٍ إلى القول بعدم وجود واجب الوجود، لأن الأوصاف المطلقة لا وجود لها إلا في الذهن لكونها كليات، وقد أشرنا في غير هذا الموضع إلى أن القطعي العقلي يدل على وجود الماهيات المجردة والكليات المطلقة في الذهن، ولا وجود لها في الخارج إلا مشخصة، ومما ينقض كلام الفلاسفة أيضا من أساسه هو قولهم وجود واجب الوجود مطلق، والوجود ينقسم باعتبار عليته في وجوده على غيره إلى واجب وممكن، وهذا تناقض صريح وتنظير باطل لأنهم يجعلون الشيء الواحد قابلا أن يكون قسما وقسيما باعتبار واحد.
ولكن هل هذا الذي ذكره ابن تيمية رحمه، وألزم به غيره هو نفس قول الفلاسفة وغيرهم في مسألة الصفات، فهل هم يقولون نثبت أوصافا مطلقة حتى نلزمهم أن هذا تعطيل، ذلك لأن الأوصاف المطلقة لا وجود لها إلا في الذهن، ولا تتجلى خارجا إلا مشخصة.
وحتى يهنأ العلامة ابن تيمية ومن تبعه في المسألة نقول: أننا نثبت الصفات على ما يليق بالله تعالى، ونعتقد أن وجودها وجود خارجي لا وجودا ذهنيا فقط، وسيأتي في مباحث لاحقة كلام الأئمة في الباب صريح لا مجال للتشكيك فيه أو التشبيه.
نقطة بحث:
ما هو المعنى الذي إذا رددته كفرت؟، هل هو الظاهر في الذوات أو الظاهر في الأفعال أو الظاهر في الأوصاف؟.
قد بينت سابقا أن الوصف الذي لا خلاف في وصفيته ولا نقص فيه أو شبهة نقص مرادٌ للشارع وجب أن نؤمن به على ظاهره القطعي (النص عند الأصوليين)، وظاهره هو مطلق الحدث أي المشترك المطلق الكلي في الأفعال، والوصف المطلق وهو المشترك المطلق الكلي أيضا في الأوصاف.
وأما الذوات فقد انعقد قول أئمة أهل السنة على عدم القول بالظاهر الذي هو الجارحة وقد نقل العلامة ابن تيمية الإجماع على كفر من قال به، نقله عن الخطابي وأبي بكر الخطيب، ولا ظاهر يتبادر إلى الذهن سوى الجارحة كما سيأتي في النقطة الثالثة من هذا الباب.
ومن هذين دون توسع في غيرها يتبين أن:
– تعطيل الذوات من معنى الجارحية مطلوب شرعا وتفويض المعنى الحقيقي الذي هو مراد الشارع مطلوب شرعا
– تعطيل الأوصاف من معنى الحدثية منبوذ شرعا.
– تفويض الأوصاف من معنى الحدثية منبوذ شرعا [ أقصد بالحدثية المشترك المطلق الكلي ].
إذا اتضح هذا فسيزول كل لبس في الباب والله المعين أولا وأخيرا.