الخلط في الماهيات (القول بنفي تكييف الذوات لا يلزم منه رفع التشبيه ولا يصرفها عن ظاهرها)
من المسائل التي زلّ فيها من أثبت لله سبحانه الذوات على ظاهرها اجراء التكييف على الذوات كما أجريت على الصفات، والتكييف إثبات لكيفية، وأصل مستندهم بني على الطرد بين الصفات والذوات أولا ، وقد تكلمنا حوله في النقاط السابقة، و ورود ما نسب إلى مالك بن أنس رضي الله عنه في قوله: (والكيف مجهول)، وفي رواية و(الكيف غير معقول) ثانيا، وما ورد عن السلف في قولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف)، ولم أقف على مستند ينفي الكيف سوى ما ذكرت.
ولتفصيل المسألة وإزالة الشبهة والإيهام عنها لا بد من بيان معنى الكيف لغة.
قال الحسن الصغاني في العباب في مادة كيف:
((كَيْفَ): اسم مُبهم غير متمكن،…، وهو للاستفهام عن الأحوال، وقد يقع بمعنى التعجُّب والتوبيخ كقوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرونَ باللهِ)، ويكون حالا لا سُؤال معه كقولك: لأُكْرِمَنَّكَ كيْفَ كُنت؛ أي على أي حال كُنْتَ، ويكون بمعنى النفي كقول سُويد بن ابي كاهِل اليشكري:
كَيْفَ يَرْجُوْنَ سِقَاطي بَعْدَما جَلَّلَ الرَّأْسَ مَشِيْبٌ وصَلَعْ
وأما وقوله تعالى: (فَكَيْفَ إذا جِئْنا من كلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) فهو توكيد لما تقدّم من خبر وتحقيق لما بعده).
وقال الجوهري في الصحاح مادة كيف:
((كيف): اسم مبهم غير متمكن …
وهو للاستفهام عن الأحوال وقد يقع بمعنى التعجب كقوله تعالى: “كيف تكفرون بالله” وإذا ضممت إليه ما صح أن يجازي به تقول: كيفما تفعل أفعل).
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة العربية مادة كيف: ((الكاف والياء والفاء) كلمةٌ. يقولون: الكِيفة: الكِسْفة من الثّوب. فأمَّا (كيفَ) فكلمةٌ موضوعة يُستفهَم بها عن حالِ الإنسان فيقال: كيف هو؟ فيقال: صالح).
أقول: مما أجمع عليه العلماء أن (كيف) تكون متعلقة بالأحوال، فهي سؤال لبيان ما أبهم من الأحوال أصالة، وقد تستعمل في غير ذلك كما ورد عن العرب في التعجب والتوبيخ والنفي والتوكيد على غير أصالة.
قال ابن منظور في اللسان مادة (حال):
(و(الحالُ) كِينَةُ الإنسان وهو ما كان عليه من خير أَو شر، يُذَكَّر ويُؤَنَّث، والجمع أَحوال وأَحْوِلة،..، اللحياني: يقال حالُ فلان حسَنة وحسَنٌ، والواحدة حالةٌ، يقال: هو بحالة سوءٍ، فمن ذَكَّر الحال جمعه أَحوالاً، ومن أَنَّثَها جَمعَه حالات).
وقال في مادة (كين): (وباتَ فلانٌ بكِينةِ سَوْءٍ، بالكسر، أَي بحالة سَوْءِ).
أقول: تعلق (الكيف) بالحال، وحال الشيء كينته كما قال ابن منظور.
فمن تدبر التكييف على هذا التفصيل الذي ذكرت سيجد أنه لا يدفع إيهام تشبيه ولا يرفعه في الذاوات بل يثبته من حيث هو وينفي عنه العلم بكينته لا غير.
والسؤال المطروح: لما قال السلف أمروها كما جاءت بلا كيف وما كانوا يعنون بذلك؟.
اعلم رحمك الله أن السلف كانوا أعلم الناس باللسان العربي، والمادة العلمية التي نقلت عنهم تنمّ عن قوتهم في ذلك وفهمهم الثاقب لمسألة الصفات، فهم كانوا يفرقون بين الصفات الواضحة التي ثبتت بالقطع ومدلولها قطعي، ولا تشعر بنقص بل هي عين الكمال كالصفات الواردة في حديث: (إن لله تسعا وتسعين اسما)، وما ورد من صفات الكمال في الكتاب والسنة، وبين الأفعال والأوصاف التي هي صريحة في النقص أو فيها شبهة نقص، ومنها وصف (الملل) و(النسيان)، وما كان (ذاتا) كـ(الدهر).
فأثبتوا الصفات الواضحات على ما تدل عليه بلا كيف، لأن التكييف متعلق بالذات وقد قلنا نحن نثبت المشترك المطلق الكلي الذي نفهم به الخطاب وهو المصدر في الأفعال ومطلق الوصف في الصفات كالرحمة في (رحيم ويرحم) وقد قلنا هذا المشترك موجود ذهنيا، ولا وجود له خارجا إلا مشخصا، والله عز وجل قد حجب نفسه عن مخلوقاته، وقد قيل أن اسم (الله) مشتق من وصف الحجب (لاهت)، ومن قال بهذا استدل بقول الشاعر: لاهت فما عرفت يوما بخارجة***يا ليتها برزت حتى عرفناها، وحجبه لنفسه يجعلنا لا نعرف كنه ذاته فلزم نفي الحال لأن الحال موجود خارجا وتعلق معرفته خارجا بمعرفة الذات المحجوبة بالأساس، فهذا معنى (أمروها كما جاءت بلا كيف)، فالإمرار إثبات للظاهر ونفي التكييف لعدم العلم بالذات.
وأما المتشابهات من الصفات والأفعال لو أجرينا عليها هذا الكلي وهو (أمروها كما جاءت بلا كيف) فنحن سنبقي على أصل فعل النقص وهو عن الله ممتنع، ولا يجوز النقص على الله تعالى بالأساس، فلا تصلح معه قاعدة (أمروها كما جاءت بلا كيف)، ومن هذه الأفعال (النسيان، والملل، الإتيان، المجيء، النزول) أما الأولان فظاهران في النقص لا نعرف من يقول: ( أمرو الملل على الله – تعالى الله عما يصفه به الجاهلون- بلا كيف)، ولا النسيان، وهذان وصفان لازمان للحشوية، فليظهروا لنا نصا واحدا ينفيهما، قد يقول المخالف: النسيان منفي بقوله: { وما كان ربك نسيا}، فنرد عليه: هو نفي لكينونة النسيان في الزمن الماضي، فيقول: هنا كان بمعنى لازال، فنقول له: هذا تأويل لأنه صرف للظاهر، ولا مناص من اعتبار الكمال المطلق كقطعي عقلي لوجوب واجب الوجود لصرف الآية عن ظاهرها وتأويل النسيان والممل.
وأما (الإتيان، والمجيء، والنزول، ووو) فليست صريحة في النقص، فمنهم من أثبتها تفويضا لورود النص بها من جهة، والجهل بعالم الخالق (اللاهوت) من جهة أخرى، ومنهم من رفضها لأنه افترض فيها النقص، وهو مسلك أصل القول فيه تصور مسألة (جواز العوارض على واجب الوجود)، لهذا نجد الخلاف عند السلف فيها.
وأما الذوات فلا (تكيف) ولا يقال: (كيف يدك) إلا بإرادة معرفة (حال اليد)، وعندما أقول (إن لله يدا بلا كيف)، فقد أثبت ظاهرها على ما هو عليه، ونفيت معرفة (حال هذه اليد)، والخلاف ليس في الحال وإنما في عين (اليد) ، هل القول بظاهرها فيلزم القول بالجارحة لزوما، أو لا نقول بظاهرها فلزم السكوت فيها على مذهب السلف.
فكلمة (بلا كيف) لا ترفع شبهة التشبيه بل هي صريحة فيها.
سيأتي التفصيل الممل في باب الإسقاطات لاحقا