خلط المفاهيم ( الخلاف في فهم النصوص لا قبولها أو ردها)
قد أشرت قبل أن الخلاف بيننا وبين من خالفنا من الحشوية والمجسمة في باب الصفات إنما تعلق بفهم النصوص لا بقبولها أو ردّها، أقول هذا لأن بعض المدّعين يصوّر نفسه أنه ناصرٌ للسنة قابلٌ بها وغيره عدوٌّ للسنة رافضٌ لها، وهذا كذب وتضليل وتدليس وتلبيس لا يمت إلى الواقع بصلة، فكل ما ثبت بالقطع وكان مدلوله قطعيا لا يجوز بحال من الأحوال أن يرد أو يؤول، بل رده وتأويله لمن ثبت عنده بالقطع وكان مدلوله قطعيا عنده كفر، ولم يكن مسلما مستسلما لله تعالى.
كما لم يفهم جمع من المتشرعة أن الاجتهاد لم يتعلق بالفروع دون الأصول، وأن تعلقه بالظن دون القطع [وهذه آفة من خاض في الأصول من غير معرفة بالمنطق] ، فكل مسألة ظنية هي محل اجتهاد، ولا اجتهاد في القطعيات، والظن والقطع يعرض على النقل من جهتين، من جهة ثبوته، ومن جهة مدلوله، والقسمة بذلك على النحو التالي:
– قطعي في ثبوته، قطعي في مدلوله.
– قطعي في ثبوته، ظني في مدلوله.
– ظني في ثبوته، قطعي في مدلوله.
– ظني في ثبوته، ظني في مدلوله.
وهذه الأربعة لم تختص بالأصول دون الفروع، ولا بالفروع دون الأصول، بل هي عارضة عليهما جميعا، فما ورد منها في الأصول وكان:
– قطعي الثبوت قطعي الدلالة ( وهذا النوع من النقل يستحيل أن يخالف القطعي العقلي) أخذنا به على ما هو عليه، وتركه جحودا به كفرٌ.
– قطعي الثبوت وظني الدلالة ( فننظر في ظنيته هل هي راجحة أو ليست راجحة، فإن كانت راجحة نظرنا هل يخالف قطعيا عقليا، أو قطعيا شرعيا، أو قطعيا عرفيا، فإن خالف تركناه للقطعي الشرعي أو العقلي أو العرفي، وهذا ما يسميه الشرعيين بدلالة الاقتضاء – ولقد اشتد عجبي من المتسلفة التي تقول بدلالة الاقتضاء في الفروع دون الأصول وكأن من جاء بالفروع غير الذي جاء بالأصول، نقول لهم هنا، لما لا تلتزمون الظاهر في حديث (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ما استكرهوا عليه) وتطلقون عصمة هذه الأمة أو أنكم تردون النصوص، وفي قول الله تعالى (فعدة من أيام أخر ) فتلزمون المريض والمسافر صيام شهرين ” شهر رمضان وشهر آخر” أو أنكم معطلة للنصوص وتتكلمون بهواكم، وفي قول الله تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها) وتقبلون شهادة الدور والبناءات في المحاكمات القضائية أم أنكم غير مصدقين بقول الله، فإن قلتم نؤول فيها لمخالفتها القطعي العقلي أو الشرعي أو العرفي، قلنا: وهل هي بالهوى، ترمون غيركم بما أنتم مضطرون إليه).
– ظني الثبوت وظني الدلالة أو قطعي الدلالة فتعالج بما ذكرناه في ما كان قطعي الثبوت ظني الدلالة، والتأصيل فيها واحد.
وقد ترك العلماء ثلة من الأحاديث الصحيحة لكونها صريحة في التشبيه والنقص، أو فيها من التلبيس على العامة ما فيها، فقد قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : 8/103:
( أبو أحمد بن عدي : حدثنا أحمد بن علي المدائني ، حدثنا إسحاق ابن إبراهيم بن جابر ، حدثنا أبو زيد بن أبي الغمر قال ابن القاسم سألت مالكاً عمن حدّث بالحديث الذي قالوا : إن الله خلق آدم على صورته ، والحديث الذي جاء : إن الله يكشف عن ساقه ، وأنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد ، فأنكر مالك ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يحدث بها أحد ! فقيل له إن ناساً من أهل العلم يتحدثون به فقال : من هو ؟ قيل ابن عجلان عن أبي الزناد ، قال لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالماً ، وذكر أبا الزناد فقال : لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات ) . انتهى .
فهل مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه عدوّ للسنة مبغض لها، أم هو جاهل بها كما خرج الذهبي كلامه، وسيأتي تفصيل المسألة في باب المنقول.