الوجود اللاهوتي وجود خارجي (ملحق بالمشترك المطلق الكلي)
قد يسر الله في حلقة سابقة أن قرّرنا الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي، وبينّا فيها معنى الاشتراك المطلق، وبينّا أنه هو الاشتراك الكلي الذي يكون وجوده وجودا ذهنيا، ولتتميم الفائدة أردت أن أبين هذه المسألة تبيينا تاما أرفع به اللبس والاعتراض الذي اعترضه العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى على السادة الأشاعرة في الباب.
أقول: اعلم رحمك الله أن الوجود ينقسم باعتبار نوعه إلى:
– وجود ذهني: وهو عالم الصور الحاصلة في الذهن ، وهي إما أن تكون مفردة أو مركبة، ولا تخرج في تي الحالتين عن عالم الصور الحاصلة في الذهن.
– وجود خارجي: وهو كل موجود خارجا أي مخلوق لله تعالى في عالم الحقيقة المشهود.
وعلقة الوجود بين هذين الوجودين تتجلى في أربعة أقسام لزوما:
– وجود ذهني لا وجود له في الخارج: وهو كل وجود له محل في الذهن ولا واقع له خارج الذهن على هيئته التي هي في الذهن.
أ- وهو كل وجود كلي، لأنه لا كلي في الخارج وهو باق على كليته.
ب- والمعدوم الجزئي، لأن المعدوم الجزئي متصور في الذهن فهو موجود فيه، معدوم في الخارج فلا وجود له فيه.
ت- والموجود الجزئي الذي لا مانع من وجوده خارجا ولم يتعدد فعلا.
– وجود ذهني له وجود في الخارج: وهو كل جزئي له وجود في الخارج فلزم من حصول صورة له في الذهن، لأن عالم الصور أوسع من عالم الحقيقة.
– وجود في الخارج لا وجود له في الذهن: وهو كل وجود له وجود في الخارج لا يدركه الذهن لاستحالة تصوره لعدم توفر المقدمات التي من خلالها يمكن تصوره، كتصور اللاهوت للناسوتي.
– لا وجود له في الخارج ولا وجود له في الذهن: وهو كل معدوم في الخارج لا يتصوره الذهن في العقل لعدم قدرته على تصوره.
فإن تيسرت هذه القسمة واستقرت في الذهن فاعلم أن الوجود الإلاهي يدخل في الوجود الخارجي لا الوجود الذهني فلا يوصف سبحانه بميزات الوجود الذهني بل بميزات الوجود الخارجي.
ومن ذلك أن نصفه سبحانه بالأوصاف المطلقة (الكليات) التي لا واقع لها خارجا إلا مشخصة (عارضة على الذوات)، فوصفه بالكلي وهو باق على كليته ليس وصفا عند التحقيق، لأنه إعطاءُ للوجود الخارجي أوصافٍ ذهنية كلية، وهذه قد أصاب فيها العلامة ابن تيمية عين الصواب، وردّه على بعض الاشاعرة لا يعني إطراد هذا القول على عمومهم رحمهم الله تعالى، فقد كانوا يثبتون أوصاف مطلقة مشخصة فيه كما تليق به سبحانه لا أوصافا مطلقة وهي باقية على إطلاقها.
فإن تيسر هذا فقد قررنا في علم التوحيد أن العقل يوجب المباينة بين عالمي اللاهوت والناسوت، فما كان للاهوتي لا يجوز للناسوتي، وما كان للناسوتي لا يجوز له أن يكون للاهوتي، وهذه القاعدة عندما نطلقها فنحن نقصد بها عدم جواز المشاركة والمشابهة والمماثلة في الوجود الخارجي لا الذهني، لأن الوجود الذهني لا يتعلق بالوجود اللاهوتي ولا الوجود الناسوتي.
ولما كان الوجود الذهني:
– إما له وجود في الخارج: وهي الجزئيات التي لها وجود في الخارج.
– أو لا وجود له في الخارج: وهي الكليات التي بقيت على كليتها، والممتنعات، والممكن الذي لا وجود له.
والوجود الخارجي منه:
– وجود خالق (في عالم اللاهوت).
– وجود مخلوق (في العوالم الأخرى).
وكان العقل البشري محدودا لا يستطيع أن يتجاوز الحد الذي حدّ له:
– فله أن يتصور أو يحكم إن توافرت له المقدمات.
– أو يمسك إن لم تتوافر له المقدمات.
وكان الوجود الخارجي للاهوت وجود منفرد لأنه وجود من لا عليته له على غيره ووجود العوالم غيره وجود من هو في وجوده عالة على غيره منع الاشتراك في الجزئيات المفردة والمركبة بينهما.
فإن الاشتراك الممتنع بينهما هو الاشتراك الخارجي الحقيقي في الجزئيات، ولا يمتنع عقلا الاشتراك الكائن في الذهن لأنه هو وسيلة الدلالة بينهما ليعرف واجب الوجود نفسه لممكن الوجود، ذلك لأن الدوال ستة كما قررها المناطقة (الكلام، والخط، والإشارة، وما يفهم من حال الشيء، والحل، والعقد)، واتمنع منها في حق الإله كا تعلق بالمادة ولازم لها من (الإشارة، وما يفهم من حال الشيء، والحل، والعقد)، وجوّز العقل (الكلام، والخط) ولم يمنعهما، وجاء النقل مصدقا لذاك فقال الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم}، وقوله: { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}.
إذ مخاطبة واجب الوجود لممكن الوجود لا بد أن يقتصر فيها على ما يفهم لممكن الوجود وإلا كان الكلام عبثيا لا فائدة فيه ولا طائل من وراءه، فأخبر ربنا عن نفسه بأوصاف للعقل البشري أن يدركها، وسكت عن أشياء لعدم قدرة العقل البشري على أن يعقلها ويدركها، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، لتفاوت عقول المكلفين من جهة، ومحدودية عقول كل المكلفين من جهة أخرى.
والخطاب بالمدركات عند عالم المخلوق نوعان:
– ما هو معهود عند المخلوق من الجزئيات الموجودة.
– ما هو من الكليات العارضة على الجواهر من الأوصاف المطلقة والحدث المطلق.
وهذه الأوصاف المطلقة والحدث المطلق هي بيت القصيد من ذكرنا لهذه الحلقة اللاحقة للاشتراك، والغرض منها إثبات أن الأوصاف المطلقة وجودها وجود ذهني عارض على الوجود الخارجي للخالق والمخلوق، وليس وجودها خاص بمخلوق دون الخالق ولا الخالق دون المخلوق، ولا يلزم الشركة فيها المشابهة ولا المماثلة، لأنها تتشخص بالجوهر التي تعرض عليه، وسيأتي بيان الجوهر والعرض في حلقة تخصها.
معذرة مرة أخرى على عدم الترتيب، فأنا أكتب بما تيسر مما يحضرني.