تفصيل القول في الحقيقة والمجاز وأثر هذا التقسيم على مسألة الصفات
اعلم رحمك الله أن الحقيقة هي: استعمال اللفظ فيما وضع له أولا، والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا، أي هو نقلُ استعمال اللفظ من معنى إلى معنى آخر لموجب بينهما، فإن لم يكون تمت موجب فيكون النقل من باب العلمية لا المجاز.
وحتى تتجلى هذه الماهيات ونرفع بها اللبس الذي عالجه بعضهم فأنكر هذه القسمة، نفصل أكثر، وهذا التفصيل لا بد له من مقدمات:
– القول بالوضع قول تنظيري ليس هو ما عليه الأمر خارجا وإلا فاللغة إلهامية وليست تواضعية، وقد دلّ العقل والنقل على إلهاميتها، وقد شرحت هذا القول مفصلا في فير هذا الموضع.
والسؤال: لما يلوكُ النحويون والمناطقة وضع اللغة ويكررون دائما هذه اللفظة، والجواب أن جلّ من توسع في النحو والمنطق من المعتزلة، والمعتزلة يذهبون إلى أن اللغة متواضعة وليست إلهامية، وقد صرح ابن الجني رحمه الله تعالى به في الخصائص ونقله عن شيخه ابي علي الفارسي، وذهب من جاء بعدهم إلى القول بقولهم جريا على اصطلاحهم، وقد يكون استعمال هذا اللفظ للتنظير كما ذكرت أولا لا يراد به ما عليه الأمر خارجا.
فاستعمال اللفظ فيما وضع له أولا هي مسألة تنظيرية لا واقع لها خارجا، كما أن استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا مسألة تنظيرية لا واقع لها خارجا، وهذا المسلك هو المسلك الذي اعترض به العلامة ابن تيمية رحمه الله على كل من قال بالحقيقة والمجاز وهو مسلك قوي من الناحية التنظيرية لنسف الماهيات المذكورة فقال رحمه الله بالوضع الاستعمالي لا الأولي أو الثانوي، وهو وضع يتماشى مع إلهامية اللغة، وهذا المسلك ينسف الحد لا المحدود، وينسف التعريف لا المعرّف، فالخطأ في التعريف لا يلزم منه بحال من الأحوال عدم وجود المعرّف.
لأن واقع الحال في علوم اللغة أنها علوم استقرائية، أي تقدم المادة العلمية على التنظير العلمي، فما كان مطردا كان حكما على غيره وجاز أن نقيس عليه ما لم يرد السماع به، وما ليس كذلك حكم عليه بالشذوذ ويقتصر فيه على السماع، ومن المسائل التي لا إشكال فيها ولا ينقضها حتى العلامة ابن تيمية رحمه الله مسألة الإطلاق والتقييد في اللغة، فمن الألفاظ ما ورد مطلقا، ومنها ما ورد مقيدا، ولا شك أن الإطلاق عقلاً مقدمٌ على المقيد، ويحكم العقل أن المقيد فرع عن المطلق، فعندما يقال: رأيت أسدا، ويقال: رأيت أسدا ضاحكا، لزم التفريق بين الأسد في الجملة الأولى وهو الحيوان المفترس المعروف، والأسد في الجملة الثانية وهو الإنسان الشجاع لأن وصف الضحك من عوارض الإنسان في مسمى الحيوان لا غير.
وهذا المسلك الذي سلكناه في تخريج الحقيقة والمجاز يذهب اعتراض العلامة ابن تيمية ويثبت الحقيقة والمجاز بشكل علمي صحيح لا اعتراض عليه.
ولضبط المسألة كاملا لا بد من تحقيق مواضع التقدم العقلي التي توجب التفريق بين المتقدم العقلي (الحقيقة) والمتأخر العقلي (المجاز).
وهذه المسألة من المسائل التي بحثتها قديما وأنا أدرس على شيخي محمد أحمد لوح السنغالي بمدينة دكار كتابه: (جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية الصحيحة ).
– استعمال اللفظ قد يكون بالاختصاص، وقد يكون بالاشتراك، وقد يكون بالترادف، وقد يكون بالتواطؤ، وقد يكون بالتشكيك.
أ- فالاختصاص: استعمال لفظ معين لمعنى معين.
ب- الاشتراك : استعمال لفظ معين لأكثر من معنى وهو فيهم مطلق غير مقيد (الوضع الأول فيهم) كالقرء يطلق على معنيين (أول الحيض) و(أول الطهر).
ت- الترادف: استعمال ألفاظ مختلفة على معنى واحد، ك(الشعير والبر والقمح).
ث- التواطؤ: استعمال لفظ كلي غير قابل للتفاوت متعدد بالفعل أو القوة خارجا، ك(الرجل).
ج- التشكيك: استعمال لفظ كلي قابل للتفاوت متعدد بالفعل أو القوة خارجا، ك(النور).
– استعمال اللفظ قد يكون بأصالته أو بنقله.
أ- الاستعمال بالأصالة: هو استعمال اللفظ فيما يقدمه العقل أولا (على تعبير القائلين بالوضع / فيما وضع له أولا)، وهو ما يسمى عند المناطقة بالحقيقة.
ب- الاستعمال بالنقل: هو استعمال اللفظ فيما يؤخره العقل لزوما ( على تعبير القائلين بالوضع / في غير ما وضع له أولا)، والنقل هذا نوعان، نقل لموجب، أو لغير موجب.
1- النقل لموجب: هو استعمال اللفظ مقيدا في غير ما استعمل فيه مطلقا، وهذا الذي يسميه العلماء بالمجاز.
2- النقل لغير موجب: هو استعمال اللفظ مطلقا في غير اطلاقه الأول، من باب العلمية، كأحمد وأحمد، للعلمية وأفعل تفضيل، وقد قال فيها العلامة ابن مالك في الكافية:
وما سوى المرتجل المنقول *** نحو ثقيف هكذا سلول.
مما نستخلصه من هذا التفصيل الرافع لكل إيهام أن العقل يثبت بما لا يدع مجالا للشك انقسام اللغة باعتبار معين إلى حقيقة ومجاز، وهذا ما يصدقه السماع ولا يخالفه فتعاضد المعقول والمنقول على ذلك، ومن أنكر هذا فلينكر كل علوم اللغة لأن مبناها التنظيري قائم على ما قام به التفصيل في الحقيقة والمجاز.
علاقة الحقيقة والمجاز بمبحث الصفات:
اعلم رحك الله أن أهل السنة في الصفات مذهبين اثنين لا ثالث لهما:
– مذهب سكت عن المتشابه ولم يخض فيه على طريقة السلف، ومذهبه في تفسير تلاوته.
– مذهب صرف اللفظ المحظور اتفاقا فيما تشابه من الصفات، وفسروا ما ورد في الباب على ما تجيزه اللغة ولا يشعر بنقص بله أن يكون نقصا صريحا، ولم يقطعوا بمعنى معين، وفعلهم عند محققيهم لضرورة دفع عقيدة التشبيه التي انتشرت بين العامة.
وهو معنى قولهم: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم.
والسلامة لا يعدلها شيء.