ملحق بمبحث الكيف (السؤال بالكيف لا يستهجن مطلقا)
اعلم رحمك الله ووفقك للصواب أن نفي (الكيف) لا ينفي التشبيه كما قدمنا سابقا فهو يثبته و يؤكد الظاهر ولا ينفيه، وقد بسطنا القول في هذا الموضوع بما يتم به المقصود في بابه، فإن استقرت هذه المقدمة في العقول اعلم أن الوصف الذي ننسبه إلى الله تعالى هو كل ما وصف به ربنا سبحانه نفسه من الكمال بالأصالة أو وصفه به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الكمال مخبرا به عن عظم الله تعالى.
وقد أضفت ضميمة من الكمال للخروج الخروج الكمال من العوارض التي تمنع الوصف
لأن إطلاق الوصف من غير ضميمة الكمال كلية موجبة تنقض بجزئية سلبية، ويعرض على هذا الإطلاق (الكلية الموجبة) وصفه لنفسه بالنسيان (جزئية سالبة)، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم له بالملل (جزئية سالبة) فتنقض تلك الكلية الموجبة ونخرج عن الاستقراء الكامل المفيد للقطع إلى الهوى في الحكم على إسقاطات هذه الكلية خارجا.
ولست أعرف واقعا من ينسب إلى الله تعالى النقص وإن ورد به الكتاب ونطقت به السنة ومن ذلك ما ذكرت آنفا من نسبة النسيان إلى الله تعالى في الكتاب الكريم ونسبة الملل إلى الله تعالى في السنة النبوية المشرفة.
وسأعرض على مسألة الآن ثم نرجع إلى عدم استهجان التكييف مطلقا وتعلقه بمبحث الكمال والنقص، فأقول:
اعلم رحمك الله أن من الأوصاف:
– ما هو كمال قطعي الكمال لا خلاف في كماليته.
– ما هو ظني في الكمال اختلف العلماء في نسبته إلى الكمال.
– ما هو نقص صريح في النقص لا خلاف في نقصانه.
– ما هو ظني في النقص اختلف العلماء في نسبته إلى النقص.
ومن الكمال الذي لا شك في كماله ما ورد في حديث التسع والتسعين من كونه عالما حكيما خبيرا رازقا مريدا متكلما سميعا بصيرا قاهرا جبارا متكبرا …. مما لا خلاف فيه بين أهل السنة قاطبة.
ومن النقصان الذي لا خلاف فيه ما نفاه الله عن نفسه من الولد والوالد والنسيان والنوم والسنة واللغوب والظلم ……… مما لا خلاف فيه بين أهل السنة قاطبة.
ومن الكمال المختلف في كماله أو النقص المختلف في نقصانه الضحك والعجب والاستواء و… مما وقع فيه الخلاف، ولنأخذ الضحك كمثال ونقول: من قال أنه كمال فقد قال: لا نعدم من رب يضحك خيرا، ومن قال أنه نقصان فقد قال: لا يضحك من يعلم بالواقعة قبل وقوعها وقد انتهجوا مذهب التفويض ومنهم من فسرها بالرضى .
لهذا نجد من السلف من يثبت بعض الأوصاف ومنهم من ينفي الظاهر.
ولو نشاء أن نفسرها أصوليا نقول:
من الأوصاف ما هو قطعي في نفسه لا مجال للاجتهاد فيه وجب اثباته أو نفيه كما هو من غير خوض فيه ولا بحث في كيفه، نسلم فيه للنص على ما هو عليه.
ومن الأوصاف ما هو ظني وهو محل اجتهاد، وخلاف العلماء فيه حسب تصورهم للمقدمات التي تعرض لهم في الباب، والحكم في المسائل الظنية ليس كالحكم في المسائل القطعية.
وقبل شهر أو أكثر اتصلت بالشيخ سعد الشتري، فقلت له يا شيخ هل المسائل العقدية كلها مسائل قطعية أو يعرض عليها الظن، فقال: لا يوجد باب قطعي مطلقا، فقلت: وهل يبنى الولاء والبراء على مسائل ظنية لم يعرض عليها القطع بحال من الأحوال فلم توافق قطعيا عقليا، أو يعرض عليها الاجماع، فلم يرد، ولن يرد إلى يوم القيامة لأن الحق جلي لا مرية فيه.
فان استقر عندك هذا اعلم رحمك الله أن باب الكيف تابع إلى هذا التأصيل، فالكمال الذي لا خلاف في قطعيته لا يجوز السؤال عنه بالكيف لتعلق معرفة الكيف بمعرفة (الذات) وجهلنا بالذات يلزم جهلنا بالحال، وهو ما يسمى عند أهل السنة بتفويض الكيف.
وما سوى ذلك جاز فيه السؤال بالكيف على التفصيل التالي:
– السؤال بالكيف للإنكار في حالة نسبة النقص الصريح إلى الله تعالى ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ( مرضت فلم تعدني قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)، فاستهجن العبد نسبة المرض إلى الله سبحانه فسأل بالكيف، كما نستدل بالحديث على أن ظاهر النقص الصريح لا يجوز نسبته إلى الله لأن رب العزة نسب المرض إلى نفسه وكان يريد مرض عبده فلان وليس مرضه هو سبحانه عما نقول.
– السؤال بالكيف فيما يتوهم أنه نقص وينسب إلى الله تعالى، فمن ألحق هذه الصفات بالنقص أجرى عليها أحكام النقص وسأل بالكيف، ومن ألحقها بالكمال أجرى عليها أحكام الكمال ولم يسأل عنها به، ومن ذلك الاستواء:
– فمن قال: (كيف استوى) لصرف معنى القعود والجلوس مستهجنا لأن يضطر ربنا إلى الكرسي أو العرش ويكون عالة عليه، وملحقا به حديث الأطيط ، والذي أنكره الغالب الأعم من أهل السنة ولا نعرف من أثبته إلا النزر القليل ومنهم عبد الله بن الإمام أحمد، فمن نهج هذا النهج فقد نظر إلى فعل الاستواء على أنه من النقص الذي وجب صرفه عن الله تعالى.
– ومن أثبت معنى الاستواء فقد تصور فيه الكمال وأجرى عليه قاعدة (أمروها كما جاءت بلا كيف ) وألحقه بالكلي الموجب الذي أطلقناه سابقا، ومن ذلك قول الإمام مالك رحمه الله والغالب الأعم من السلف، وسيكون لنا مع هذه الواقعة وقفة نبين فيها أن الإمام مالك كان من المفوضة على طريقة السلف.
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل