العلامة ابن تيمية رحمه الله ينقل عن أبي سليمان الخطابي وهو مفوضي
اعلم رحمك الله أن تكلف اعمال العقول في المغيبات ليس من العقل في شيء، لأن ذلك لا يخلو من قياس شاهد على غائب، وهذا القياس ينافي كمال التوحيد الواجب لله تعالى، وقياس واجب الوجود على ممكن الوجود قياس فاسد من كل وجه، وقد أشرنا قبل إلى هذه المسألة بشيء من التفصيل.
كما أشرنا قبلُ أننا نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه أو اثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الكمال على ما يليق به سبحانه، ولا نتجاوز النص مع اعتقادنا أن الله قد يفتح على بعض خلقه بمعرفة بعض أوصافه لا يدركها غيرهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو علمته أحدا من خلقك)، ونصرف عن الله تعالى كل وصف كان نقصا صريحا أو أوهم نقصا، وما تشابه من الصفاتِ والأفعالِ والذواتُ لا نخوض فيها ولا نفسرها ولا نتكلم فيها على طريقة السلف رضوان الله عليهم في الباب، فقد تواتر قولهم فيها: (إنما تفسيرها تلاوتها)، وهذا القول منهم قول محكم لأنه لم يثبت عنهم أنهم فسروها أو خاضوا فيها أو تكلموا عنها، فقد كان يكفيهم فيها أن يثبتوها إثبات وجود لا تحديد فيه ولا تكييف ( وهذه الآثار الواردة عنهم متكاثرة لم نجد منهم من يقول بظاهر هذه المتشابهات من الأوصاف والأفعال ولم نجد واحدا منهم يفسر لنا معنى اليد والرجل والأصابع وغيرها مما يعرف عندنا بالجزء والبعض)
ولأبين اضطراب العلامة ابن تيمية في الباب سأنقل استدلاله بالكلي الضابط للمسألة بأئمة التفويض وأن الخلاف معه في الباب في فهم كلام الأئمة لا كما يصوره الجهال على أنه هو بين المثبتة والنفاة والعياذ بالله من رد صريح القرآن والسنة.
ولكون العلامة ابن تيمية يكثر النقل عن أبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي (ت. 388 هـ) رحمهما الله سننقل في هذه المقالة عن الخطابي منهجه في الصفات:
نقل العلامة ابن تيمية رحمه عن الخطابي: (إن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله . فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف . فإذا قلنا يد وسمع وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ; ولسنا نقول : إن معنى اليد القوة أو النعمة ولا معنى السمع والبصر العلم ; ولا نقول إنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول : إن القول إنما وجب بإثبات الصفات ; لأن التوقيف ورد بها ; ووجب نفي التشبيه عنها لأن الله ليس كمثله شيء ; وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات ” هذا كله كلام الخطابي) انتهى نقل ابن تيمية رحمه الله.
لنشرح كلام الخطابي بعيدا عن كل تأويل أو صرف للفظ عن الظاهر البيّن فأقول: إن مذهب الخطابي هو التفويض التام في كل ما نسب إلى الله تعالى من الأوصاف أو الذوات ولنجلي قوله أقول:
جعل القول في الصفات فرعا عن القول في الذات، والذات عنده لا يشملها ما يعرف عندنا بالجزء والبعض لأنه قال: (فإذا قلنا يد وسمع وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه) ، وقد نفى عنها كل المعاني المتعارف عليها في لسان العرب فقال: (ولا نقول إنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل)، وهل الأجزاء والأبعاض عند المخلوقين إلا جوراح وأدوات فعل.
ثم أكدّ التفويض مبررا الدافع إلى إثباتها إثبات وجود قوله: (إن القول إنما وجب بإثبات الصفات ; لأن التوقيف ورد بها ; ووجب نفي التشبيه عنها لأن الله ليس كمثله شيء)، ثم طرد القاعدة على كل الصفات فقال: (وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات).
وهذا معنى (القول في الصفات فرع عن القول في الذات) عند الخطابي الذي نقل عنه ابن تيمية رحمه الله هذه المقولة وطار بها وهي ترد مذهبه ولا يستدل بها عليه، لأن البون بين من يثبت المعاني المتبادرة إلى الذهن ومن ينفيها شاسع.
تنبيه: لست أقرّ في هذا المقام كلام أبي سليمان الخطابي وأجعله هو الفيصل في الباب ولكنني أناقش العلامة ابن تيمية في استدلاله، وأما ما أعتقده في باب الصفات سيأتي بيانه في الحلقة 70.