قاسمة ظهر المشبهة.
العلامة ابن تيمية رحمه الله يستدل بالكلي التنظيري للحافظ أبي بكر الخطيب وهو مفوضي.
قبل أن أخوض في تفصيل هذه المسألة وهي قاسمةٌ لظهر متبعي العلامة ابن تيمية رحمه الله سأقدم بين يديها مقدمة أصولية منطقية حتى يفهم الكلام على ما هو عليه وتكون هذه المسألة منتجة وقاطعة لكل ما يحاوله أي متأوّل لكلام العلامة ابن تيمية فيما ذهب إليه.
اعلم رحمك الله أن الدوال على أصح اقوال العلماء أربعة وجعلها بعضهم ستة فأما من حصرها في أربعة فقد قال بـ: (الكلام والخط والإشارة وما يفهم من حال من الشيء) وزاد عليها بعضهم (الحل والعقد)، وأركان كل ما نستدل به أربعة ( دالّ ، دليل، مستدل له، مدلول)، والدليل إما أن يكون قطعيا أو ظنيا، فإن كان الدليل قطعيا يكون مدلول الدليل واصلا للمستدل له من الدال على ما هو عليه في الغالب الأعم، وإن كان ظنيا فتتعدد المدلولات التي تصل إلى المستدل له بتعدد ما يحتمله الدليل من الاحتمالات، وقد أشار ابن أبي عاصم اللخمي إلى المسألة وهو يسقط هذه الكلية على الكلام فقال في المرتقى:
والقصد بالوضع لقصد واضعه *** ذلك ولاستعمال في مواقعه
والحمل لاعتقاد مما قصدا *** من ذلك الوضع الذي قد وردا
وهبه قد أصاب في اعتقاده *** أو خالف الواضع في مراده
فإن فهمت هذه المسألة اعلم أخي الفاضل أختي الفاضل أن القطع والظن عارضان على التصورات الذهنية ولا وجود للقطع والظن خارجا لأن الأشياء في الخارج إما
موجودة أو معدومة.
فإن استقرت هته المقدمتان في الذهن وتيقنتم أن الكلام منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني، اعلموا أن القطعي يطلق عند العلماء ويراد به ما هو قطعي في نفسه ومنه ما هو قطعي في نظر الناظر، وهذا النوع الثاني وإن كان قطعيا عند صاحبه فهو ظني في نفسه.
فإن استقر هذه المقدمات سنبدأ الكلام مع كلام العلامة ابن تيمية رحمه في الخطابي والخطيب رحمهما الله.
1- قال العلامة ابن تيمية في إقامة الدليل: (2/7) (فَقَدْ أَخْبَرَك الْخَطَّابِيُّ وَالْخَطِيبُ وَهُمَا إمَامَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – مُتَّفَقٌ عَلَى عِلْمِهِمَا).
2- العقيدة الحموية الكبرى (1/42): (هذا كله كلام الخطابي، وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك).
3- قال العلامة ابن تيمية رحمه الله في المجموع (3/207): (… وسألوه عن الظاهر هل هو موافق أم لا فقال هذا ليس فى العقيدة وأنا أتبرع بالجواب عن أكثر من حكى مذهب السلف كالخطابى وأبى بكر الخطيب والبغوى وأبى بكر وأبى القاسم التميمى وأبى الحسن الأشعرى وابن الباقلانى وابى عثمان الصابونى وأبى عمر بن عبد البر والقاضى أبى يعلى والسيف الآمدى وغيرهم فى نفى الكيفية والتشبيه عنها وأن الكلام فى الصفات فرع على الكلام فى الذات يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية) .
4- وقال رحمه الله في المجموع (6/355) : (وقد أطلق غير واحد ممن حكى اجماع السلف منهم الخطابى مذهب السلف أنها تجرى على ظاهرها مع نفى الكيفية والتشبيه عنها وذلك أن الكلام فى الصفات فرع على الكلام فى الذات يحتذى حذوه…).
فقد ارتضى الإمامين أبي بكر الخطيب والخطابي كناقلين للمذهب السلفي الذي يعتقده، فلننظر ماذا قيل فيهما من طرف المترجمين لهما ثم ننظر في كلام أبي بكر الخطيب بتجرد
1- قال الذهبي في السير (الطبقة 24):
(…قال عبد العزيز بن أحمد الكتاني : سمع من الخطيب شيخه أبو القاسم عبيد الله الأزهري في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة . وكتب عنه شيخه البرقاني ، وروى عنه . وعلق الفقه عن أبي الطيب الطبري ، وأبي نصر بن الصباغ ، وكان يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري ، رحمه الله …)
2- قال الحافظ ابن عساكر في التبيين (272): (… وكان يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله…) والحافظ ابن عساكر من طلاب الحافظ أبي بكر البغدادي فقد صرح عنه بالسماع في قوله: (…سمعت أن الخطيب ذكر أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات وسأل الله ثلاث حاجات أن يحدث بتاريخ بغداد بها وأن يملي الحديث بجامع المنصور وأن يدفن عند بشر الحافي فقضيت له الثلاث) والمحسن بشر الحافي الصوفي المعروف.
وقد ذهب بعض الأئمة ومنهم العلامة ابن تيمية على أنه من المثبتة على الظاهر في المتشابه من الصفات أو ما يسمى بالصفات الخبرية الموهمة، وحتى نفض الخلاف لا بد من الحكم المجرد البعيد كل البعد عن الهوى وسننقل كلام أبي الخطيب كما هو ثم نفصله تفصيلا.
1- قال في رسالة الصفات:
(أما الكلام في الصفات فإن ما رُوِي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها, وإجراؤها على ظواهرها , ونفي الكيفية والتشبيه عنها .
وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه , وحققها من المثبتين قوم فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف .
والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين , ودين الله بين الغالي فيه, والمقصر عنه
والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات, ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله .
فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود, لا إثبات كيفية , فكذلك إثبات صفاته, إنما هو إثبات وجود, لا إثبات تحديد وتكييف .
فإذا قلنا : لله تعالى يد, وسمع , وبصر , فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه, ولا نقول : إن معنى اليد القدرة, ولا إن معنى السمع والبصر العلم , ولا نقول : إنها جوارح وأدوات الفعل , ولا نشبهها بالأيدي, والأسماع, والأبصار التي هي جوارح, وأدوات للفعل.
ونقول : إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها, ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى:{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (الشورى: 11 ), وقوله عز وجل: { ولم يكن له كفوا أحد }
ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث, ولبَسَّوُا على من ضَعُفَ علمه بأنهم يَرْوُونَ ما لا يليق بالتوحيد, ولا يصح في الدين, ورموهم بكفر أهل التشبيه, وغفلة أهل التعطيل, أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى آيات محكمات, يفهم منها المراد بظاهرها, وآيات متشابهات لا يوقف على معناها
إلا بردها إلى المحكم, ويجب تصديق الكل, والإيمان بالجميع
فكذلك أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم جارية هذا المجرى , ومنزلة على هذا التنزيل, يرد المتشابه منها إلى المحكم, ويقبل الجميع .
وتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام :
أ – منها أخبار ثابتة, أجمع أئمة النقل على صحتها, لاستفاضتها وعدالة ناقليها
فيجب قبولها والإيمان بها, مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيها لله بخلقه, ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات, والتغير والحركات .
ب – القسم الثاني : أخبار ساقطة بأسانيد واهية, وألفاظ شنيعة , أجمع أهل العلم بالنقل على بطولها, فهذه لا يجوز الاشتغال بها, ولا التعريج عليها .
ج – والقسم الثالث : أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها, فقبلهم البعض دون الكل , فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها لتلحق بأهل القبول, أو تجعل في حيز الفساد والبطول.
وأما تعيين الأحاديث فإني لم أشتغل بها , ولا تقدم مني جمع لها, ولعل ذلك يكون في بعد إن شاء الله).
2- قال في كتاب الاعتقاد:
( اعلموا -رحمنا الله وإياكم- أن مذهب أهل الحديث -أهل السنة والجماعة- الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله تعالى وما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نعدل عما ورد به ولا سبيل إلى رده؛ إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة مضموناً لهم الهدى فيهما، مشهوداً لهم بأن نبيهم صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم، محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم.
ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد الكيف.
وأنه جل وعلا استوى على العرش بلا كيف، فإن الله تعالى أنهى إلى أنه استوى على العرش، ولم يذكر كيف كان استواؤه.
وأنه مالك خلقه، وأنشأهم لا عن حاجة إلى ما خلق، ولا لمعنى دعاه إلى أن خلقهم، لكنه فعال لما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل والخلق مسئولون عما يفعلون، وأنه مدعو بأسمائه الحسنى، وموصوف بأسمائه التي سمى ووصف بها نفسه وسماه ووصفه بها نبيه عليه السلام، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يوصف بما فيه نقص أو عيب أو آفة؛ فإنه عز وجل تعالى عن ذلك، وخلق آدم عليه السلام بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد كيف يداه؛ إذ لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف، ولا يعتقد فيه الأعضاء والجوراح ولا الطول أو العرض، والغلظ والدقة، ونحو هذا مما يكون مثله في الخلق، فإنه ليس كمثله شيء، تبارك وجه ربنا ذي الجلال والإكرام،، ولا يقولون إن أسماء الله غير الله كما تقوله المعتزلة والخوارج والطوائف من أهل الأهواء، ويثبتون أن له وجها، وسمعا وبصرا، وعلما، وقدرة، وقوة، وعزة، وكلاما، لا على ما يقوله أهل الزيغ من المعتزلة وغيرهم، ولكن كما قال تبارك وتعالى: {ويبقى وجه ربك }، وقال: { أنزله بعلمه}، وقال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، وقال: { فلله العزة جميعا}، وقال: { والسماء بنيناها بأيد}، وقال: { أولم يرون أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة}، وقال: { إن اللههو الرزاق ذو القوة المتين}، فهو تعالى ذو العلم، والقوة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام ، كما قال تعالى: { لتصنع على عيني}، {واصنع الفلك بأعيننا}، وقال: { حتى يسمع كلام الله}، وقال: { وكلم الله موسى تكليما}، وقال: { إنما أمره إذا اراد شيئا أن يقول له كن فيكون}… ).
لتفصيل الكلام في مذهب الحافظ رحمه الله لا بد من تبيين بعض المصطلاحات:
معنى “إثبات وجود”: عندما يطلق العلماء لفطة إثبات الوجود يقصد بها إثبات الشيء على أنه من الموجودات لا من المعدومات في الخارج من غير تفصيل في هذا الشيء الموجود إن لم يرد دليل آخر يخبر عن كنه هذا الموجود.
وإثبات ما ورد النص به على أنه مثبت إثبات وجود لا يفض الخلاف الوارد بين من أثبت الشيء بمعنى معين يتبادر إلى ذهنه، وبين من أوكل علم هذا المعنى إلى من هو أعلم به منه.
… يتبع في حلقة ملحقة بـ 26