الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وبعد:
من عجائب هذا الزمان ظهور فئة من المتفيقهة التي لا يعرف لها طلبٌ ولا ناقة لها في العلم ولا جمل بل غوغائية وغثائية تشدّ على العامة وتيسر لنفسها، فتفتي بالعزائم وتعمل بالرخص والله المعين، مخالفين بمنهجهم هذا المعقول والمنقول.
ومن عجائب هذا الزمان تقبل العقل كل ما يرد من زيد أو عمرو لأنه صُدِّر من طرف النطيحة والمتردية وما عافه السبع حتى أضحى الفقيه بحق يناقش في مسائل لا نعرف فيها خلافا بين العلماء بحق، وقد يضطر صاحب الحق إلى تدريس مخالفه مبادئ العلوم حتى يفهمه ويسلم له، والله المعين.
ومن المسائل التي يخوض فيها الشباب الملتزم مسألة الاستفادة من القروض التي خصصت للعمل من طرف الدولة، و الاستفادة من سكنات المعروفة بصيغة الإيجار المنتهي بالتمليك.
ليظهر ويطلع علينا بعض المتفيقهة، فيقول: حكم الله في المسألة حرررررررام ، مغلقا لكل فرج قد يمسّ إخوتنا، وأقسم أن الغالب الأعم من هؤلاء المتفيقهة ليس مضطرا إلى عملٍ أو سكنٍ، فهو من العاملين عليها في الزكاة ، ومن الغارمين فيها إن كان مدينا، وقد عالجنا منهم المئات في بلاد شتى حيث تدخل صدقات المسلمين إلى بيته ولا تخرج، ويتأول حديث اضربوا لي معكم سهما في كل ما فيه مال والله المعين.
ولم يفرقوا هؤلاء المساكين بين الحكم الأولي المأخوذ من المنقول، والحكم الثانوي (الفتوى) التي تعلق الحكم فيها بأحوال الناس.
وقبل أن نستهل في دراسة هذه المسألة دراسة صحيحة نصد بها ونرد كل ما قيل
في هذا الباب بالجهل لا بد أن أشير إلى مسألة وهي:
سلبية الإخوة عموما وعدم مكرهم بالماكرين وقد علم عقلا أن السذاجة المطلقة خور، وأن المكر المطلق جور، وأن المكر بالماكرين من الكمال.
مسألة لونساج وشبهة الربا :
اعلم رحمك الله أن التشريع إنما جاء لإصلاح هذا العبد الضعيف، فقد جاء الإسلام ليصلح البدن، وجاء الإيمان ليصلح النفس، وجاء الإحسان ليصلح الروح، وهذه المسألة قد بسطناها في مواضع كثيرة.
وهذا الذي جاء به التشريع يسمى بالحكمة منه، فالحكمة من التشريع عموما هو إصلاح المكلف، ولا كلفة للمكلف إلا بتحقيق هذه الحكمة من خلال إتيان التشريع المتعلق بالأبدان والأنفس والأرواح تأصيلا وتفريعا.
وأما العلة كمفهوم عام فهي الصفة التي تحقق الحكمة من التشريع من إصلاح البدن والنفس والروح، وقد عرفها الأصوليون: الوصف المنضبط الذي يلزم من وجوده وجود ومن عدمه عدم لذاته، أي أنه وصف مؤثر في الحكم بذاته.
والآن نطرح مسألة ربما لم يتنبه إليها من درس الأصول على الكتب ولم يخالط العلماء المتخصصين فيه، ( مسألة تتحقق المصلحة على بعض الأعيان بخلاف النص المعلل، فهل العمل والفتوى بالنص أو بالمصلحة، وهو ما يعرف عند الأصوليين والفقهاء: بتعارض النص التعللي مع المصلحة المرسلة)
والمسألة لمن رزقه الله البصيرة واضحة جلية لا تحتاج إلى كثير نظر ( ولكن أعمى الله بعض الأبصار والبصائر).
إن كان النص جاء بالأساس لتحقيق المصلحة ولم تتحقق المصالح على بعض الأعيان لبعض العوارض التي تخصهم أخذنا بالمصلحة وعطلنا النص لهذه العوارض وهذا المذهب مذهب جمهور الأصوليين.
وحتى لا يقول المخالف هؤلاء يعملون الهوى في الباب ويستحلون ما حرم الله نقول: الأخذ بالمصلحة لم يقل بها العلماء على الاطلاق، بل جعلوا أحوالا لمن يأخذ بها، وقسموا المكلف باعتبار احتياجه إلى المصالح إلى ثلاثة أقسام:
– من يخشى على نفسه المهلكة إذا فوّت المصلحة.
– من يخشى على نفسه الحرج إذا فوّت المصلحة.
– من يخشى على نفسه تفويت ما هو أحسن إذا فوّت المصلحة.
والجمهور على أن من فوّت ما هو أحسن إذا فوّت المصلحة مخاطب بظاهر النص وجارية عليه أحكامه وحرام عليه الأخذ بالمصلحة قولا واحدا لا خلاف في ذلك.
وأما الأولان فهما مخاطبان بالمصلحة التي يحققها العالم المجتهد الذي يحقق مناط الحكم.
وكما هو معلوم عند أهل الاختصاص أن تحريم الربا من النصوص التعللية وليست التعبدية التي وجب إتيانها كما هي، فبتحريمها صيانة لمصالح المتعاملين، وضمان للاقتصاد، وبث لروح التعاون بين المسلمين، وقد علم مما ذكرنا سابقا أن المصلحة تخصص النصوص التعللية، والتخصيص هو استجزاء من حكم كلي بحكم يخالفه.
(فهذا قول أول في حال وجود الربا الصراح بجواز الأخذ بها لمن خاف على نفسه الهلكة أو كان في حرج على أصح قولي أهل العلم في الثاني)
فكيف إن علمت أخي الفاضل أن القروض التي تصرف من طرف الوكالة الوطنية لتشغيل الشباب هي قروض بدون فائدة في أصل التعاقد، كيف إن علمت أخي الفاضل أن نسبة 1% إنما جعلت لصد المتدينين عن تحسين أوضاعهم المعيشية وبقائهم في الفاقة التي لا مخرج لهم منها إلا بسبب صحيح فقد علق الله الأسباب بالمسببات.
قد يدخل بعض المتفيقهين ليفتوننا فيقولوا: إن الحرام في الربا تعلق بالعقد لا بالفائدة، فعقد الربا حرام وإن دفع عنك غيرك الزيادة (الفائدة)، فنقول له: من الذي يدفع عنا في هذه القروض التي نفيدها من الوكالة الوطنية لتشغيل الشباب، فيقول: الدولة، فنقول: وما هو مصدر القروض، سيقول: الدولة لا محالة، فنقول: نحن نوقع عقدا لا فائدة فيه فهو عقد غير ربوي قولا واحدا، وإن تمت فائدة تدفعها الدولة فهي الجهة المقرضة بالأس، وستدفع لنفسها، وبه نخرج من الإشكال كله.
مسألة سكنات عدل:
أما مسألة سكنات عدل فزوال شبهتها أسهل بكثير من شبهة قروض لونساج، لأننا إذا تدبرنا العقد وجدنا أن الصيغة التي ينص عليها العقد (الإيجار المنتهي بالتمليك) لا واقع لها خارجا فنحن لا نعرف واحدا تأخر عن دفع الإيجار أخرج من بيته، والأولى أن تسمى باسمها حتى يحكم عليها الحكم الصحيح، واسمها الصحيح (البيع بالتقسيط)، ولا أقول ( بيع لأجل مع زيادة الثمن) لأن أسعار سكنات عدل لا تساوي خمس أسعار السكنات واقعا.
وهب أن الصيغة كما هي وفيها شبهة عقدين في عقد واحد، هل التحريم هنا تعبدي أو تعللي، والقول الذي لا خلاف فيه عند العقلاء والعلماء أنه تعللي وليس تعبديا، فتحكم المسألة من مخالفة المصالح المرسلة للنص التعللي والقول فيها كالقول في قروض الوكالة الوطنية لتشغيل الشباب لأن التأصيل واحد (مخالفة النص التعللي للمصلحة المرسلة)
نصيحتي للشباب: لاتضيعوا أوقاتكم واشتغلوا وابنوا أسرا، ومن جاء ليفتيكم بحرام اعلموا أنه لا ناقة له في العلم ولا جمل، فقد قال الحسن البصري رحمه الله: ليس الفتوى بالتشدد إن التشدد يتقنه كل الناس، إنما الفتوى هي التماس الرخص لعامة الناس من المسلمين
تحياتي لكل الإخوة والأخوات