نصيحة الشيخ الوالد يحيى إبراهيم اليحيى لأبي مسلم محمد بن فضيل
المكرم الأخ الفاضل الشيخ محمد فضيل حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: أسأل الله تعالى أن يجعلك مباركا حيثما كنت وأن يحفظك في دينك ونفسك وأهلك ومالك.
هذه رسالة إليك أخي الحبيب كتبتُها بمداد الحبّ والوفاء، يحملها بريدُ الشفقة والرحمة…
أخي الكريم: إنّ نعم الله تعالى علينا وعلى الناس كثيرة تُعدّ ولا تحصى (وما بكم من نعمة فمن الله) (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)، وأعظم النعم وأجلُّها وأكرمها نعمة الإسلام؛ فهي نعمة تصغر أمامها جميع النعم مهما عظُمت، ومن كمال هذا النعمة الدعوة والعمل للإسلام فهذه نعمة كبرى وهي وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا يستطيع العبد مهما كان أن يقوم بشكرها، وإن هذه النعمة قلّ من يصبر عليها لأنها تحتاج إلى صبر وعزيمة كمثل صبر الرسل عليهم السلام، ومن وُفّق لهذا فقد وفق لخير كثير، ولقد تحمل الصحابة رضوان الله عليهم المحن ومرارةَ الجهاد والغربةِ عن الأوطان مع شظف العيش وقلة ذات اليد وفقدان الناصر شكرا لله ورجاء بما عنده، فإن العيش عيش الآخرة. (يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانهى عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)
أخي الكريم: أحب أن أوصيك في مطلع هذه الرسالة بعدة وصايا:
1. عليك بمشاهدة نعمة الله عليك في كل حال فإنّ من فعل ذلك استصغر عمله.
2. الله الله بالإخلاص في عملك واعلم أن السلف كانوا يقولون (الإخلاص فقدان رؤية الإخلاص ومن رأى في نفسه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص)
3. الاهتمام العظيم بالقرآن الكريم حفظا وتلاوة وتفسيرا وتدبرا ففيه مفتاح كل خير، وقد ندم عدد كبير من العلماء الكبار في آخر حياتهم أن لم يصرفوا كل جهودهم في القرآن الكريم.
4. السنّة السنّة فإن من تمسك بها عز ونصر. وأكثر من القراءة والمطالعة في كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) لتتعرف على هديه صلى الله عليه وسلم وتقتدي به.
قال الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من قوله، ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
والسنة شاملة: لكل ما أثر عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير أو وصف (قال الحسن البصري: السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الاتراف في اترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا) وقال أبي بن كعب: إن اقتصادا في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة)
وقال الزهري: الاعتصام بالسنة نجاة لأن السنة كما قال مالك مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك.
وقال سفيان: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة.
وقال ابن شوذب: (إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يؤاخي صاحب سنة يحمله عليها.) انظر خصائص السنة ص14ـ16
5. لا تتصور أن الإيمان هو عقيدة في القلب تستوجب لصاحبها الجنة بلا ابتلاء ولا زلزلة…
فالابتلاء سنة إلهية جارية على حملة الإسلام من الأنبياء وأتباعهم كما في الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: (قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْ النَّاسِ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم.
ويجب أن يعلم الدعاة وطلاب العلم أن طريق النصر يمر عبر قناة الابتلاء والمحن والشدائد، والنصر بدون ذلك قد يتعذر وإن حصل فلا يدوم.
فينبغي للداعي وطالب العلم أن يعي ويعلم أن المراحل التي يمر بها الصادقون المجاهدون من العلماء والدعاة هي: الابتلاء، ثم الصبر، ثم العاقبة والنصر. وهذه سنة الله وسنة الله لا تتبدل ولا تتحول، وسنة الله لا تحابي أحدا، قال تعالى عن ابتلاء الأنبياء: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ)
ولاشك أخي الكريم: أن طريق الأنبياء شاقّ وعسير إلا أنّ في نهايته الجنة والسعادة الأبدية، فهل تريد أن تسير مع ركب الدعاة إلى الله تعالى ؟ فيجب عليك أن تروض نفسك وتعدها للتحمل في ذات الله تعالى.
أخي هل تستطع أن تتحمل جُزءا مما تحمّله أنبياء الله ورسله ؟ لقد لقبوا بأبشع الألقاب وأوذوا وضربوا وطردوا وقتلوا. استمع أخي الكريم بقلبك لما قيل لخير من وطئ الثرى وأظلت السماء رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) (وقالوا معلم مجنون) ضع نفسك في هذا الموضع، وسائِلْها هل تستطيع أن تتحمل ذلك؟. لو قيل لك إنك ساحر وأصبح أهل قريتك فقط يتهامسون فيما بينهم فلان ساحر ثم جاء آخر فقل صحيح أنك ساحر ! ماذا يكون موقفك أخي الكريم…قال الله تعالى (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأذوا حتى أتاهم نصرنا)
وفي الحديث المتفق عليه عن عبدالله بن مسعود قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحكي نبيا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)
وفي هذه الأيام تجد بعض الأخيار يترك بعض السنن أو بعض الفضائل وبعض طرق الخير لا خشيةً من أن يقال مجنون ولكن خشية أن يصنف أو يلقّب! فأصبح يراقب الخلق أكثرَ من مراقبة الخالق ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه. ماذا يكون أخي الكريم إذا صنفت وكُذب عليك! فأصلِح ما بينك وبين الله يصلح الله مابينك وبين الناس.
وانظر إلى نبي الله موسى عليه السلام لم يُلقِ بالاً لتلك التهمة الشنيعة التي قالها له فرعون (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) فلم يتكلف بالرد عليه وتفنيد قوله.
فإلى متى نبخل بجهودنا وبأوقاتنا ونَضِنّ بسمعتنا وجاهنا على ديننا.
تجد كثيرا من طلاب العلم لا مانع عنده من الدعوة لكن بشرط توفر المركب المريح والبيت الفسيح والزوجة الصالحة، والجو المناسب، فهو لا يريد أن يصدم بجو غير جوّه الذي عاش فيه ولا أن يُلمز ولا أن يُغتاب ولا أن يُسَب فضلا عن أن يضرب أو يسجن !!
كيف نَضِنّ بأوقاتنا وجهدنا وأموالنا وغربتنا على الله تعالى أخي الكريم إن سلعة الله غالية لا ينالها الكَسول ولا الخمول لقد حفت الجنة بالمكاره كما خفت النار بالشهوات.
يا سلعة الرحمن لست رخيصة * بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالهـــــــا * بالألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن لولا أنها * حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف * وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة * ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي تسمو إلى * رب العلى بمشيئة الرحمن
6. لا نشعر بالإحباط واليأس فالإسلام يحمل قوّته بنفسه ولذا لا يَنقُصه ضرب أفراده، ولن يستطيع أحد أن يطفئ نور الله كائنا من كان مهما بلغت قوّتهم وعددُهم (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) ومثَلُ هؤلاء المجرمين كمثل من مد كفه ليغطي به نور الشمس !! فأين الكائدون للإسلام على مر التاريخ لقد انتهوا وانقرضوا وبقي الإسلام وأهله.
7. الثبات على منهج سليم وعلى ما يعود على الإنسان من خيري الدنيا والآخرة يقي الإنسان من التردد والتغير والتنقل والحيرة. فإذا علمت أنك على الحق ومتمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومتبع لمنهج السلف الصالح فلا يضيرك مخالفةُ غيرك، ولا يضعفنّك عن مسيرك فتنة، ولا يوقفنّك عنه ابتلاء.
عن أبي مسعود الأنصاري أنه قال لحذيفة: (أوصني. قال: إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ماكنت تنكر وتنكر ماكنت تعرف وإياك والتلون في دين الله فإن دين الله واحد) الإبانة 2\505
وعن إبراهيم النخعي: (كانوا يرون التلوّن في الدين مِن شكِّ القلوب في الله) الإبانة 2\505
وقال مالك: (الداء العضال التنقل في الدين) الإبانة 2\605
وقال عمر بن عبدالعزيز: (من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل) وفي رواية (من أكثر الخصومات أكثر التنقل) الإبانة 2\305
وقال عمر بن عبدالعزيز أيضا: (من عمل بغير علم كان ما يفسد أكثرَ مما يصلح، ومن لم يَعُدّ كلامَه من عمله كثرت خطاياه، ومن كثرت خصوماته لم يزل يتنقّل من دين إلى دين) الإبانة 2\405، 605
وعن الحسن قال: (رأس مال المؤمن دينه حيثما زال زال دينه معه، لا يخلفه في الرجال ولا يأتمن عليه الرجال) الإبانة 2\905
وعن عطاء قال: (الساقط يوالي من شاء) الإبانة 2\705
وقال معن بن عيسى: (انصرف مالك بن أنس يوما من المسجد وهو متكئ على يدي، قال: فلحقه رجل يقال له أبو الجويرية ـ كان يتهم بالإرجاء ـ فقال: يا أبا عبدالله اسمع مني شيئا أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي، قال: فإن غلبتني ؟ قال: فإن غلبتك اتبعتني، قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا ؟ قال: نتبعه. فقال مالك: يا عبدالله، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين، قال عمر بن عبدالعزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل) الإبانة 2\805
8. الله سبحانه لا تنفعه طاعةُ الطائعين ولا تضره معصية العاصين قال تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين) وفي صحيح مسلم عن أبي ذر: (يا عبادي إنكم لن تلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا..)
9. دعاة الإسلام هم الذين يتمثلون الإسلام عقيدةً وعملا وأخلاقا. قال الحسن البصري: “ادعُوا الناس بأعمالكم لا بأقوالكم) وأنت تعلم أخي الكريم خطر من يقول ولا يفعل (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). وانظر في تاريخ الأمة تجد عامةَ مَن أسلم واتبع الهدى كان من جراء تلك المعاملات الطيبة والعرض الحسن للإسلام.
10. عليك برحمة الخلق والشفقة عليهم، ومن رحمتهم الحرصُ على هدايتهم.
وفي المسند وأبي داود والترمذي والحاكم عن عبدالله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)
والجزاءُ من جنس العمل فمن لا يَرحم لا يُرحم فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد: (من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله)
قال البوني: (فإن كان لك شوق إلى الرحمة من الله، فكن رحيما لنفسك ولغيرك، ولا تستبدّ بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك ورفع غضبك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم لخلقه..) الجزاء من جنس العمل 2\611
وكيف لا تحرص على هداية الخلق وقد تكفل لك بمثل أجر من اتبعك واهتدى بسببك. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا) رواه مسلم
11. المؤمن لا يعيش لنفسه ولا تكون همته مقصورة على نفسه، إنما يشغل باله أمر الأمة ولهذا تجده دائما مفكرا في سبل إصلاح الناس وهدايتهم، ويبحث عن أفضل السبل إلى ذلك. فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت يوجه الأمة وينصح لها: روى البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وغيرهم عن عائشة قالت: (كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت وهو يُغَرْغر بنفسه (الصلاة وما ملكت أيمانكم)وفي لفظ (الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم) حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه، وفي لفظ (ما كان يفيض بها لسانه) وفي المتفق عليه عن عائشة قالت: (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت عائشة: يحذر مثل ما صنعوا.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جرحه يَثعُب دما ومع ذلك يوجه ذلك الشاب المسبل ولا يترك منكرا يمر بين يديه، ويهمه أمر الأمة ومن يختار لها بعده، وراجع سيرة رسول الله عرضَ نفسه على القبائل واهتمامَه بشأن الناس وخلفه عمُّه أبو لهب يرمي عقبيه بالحجارة حتى أدماها.
وعن طارق بن شداد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، رأيته بسوق ذي المجاز، وأنا في بِياعة لي، فمر وعليه حلة حمراء، فسمعته يقول: أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه، وهو يقول: يا أيها الناس، لا تطيعوا هذا، فإنه كذاب، فقلت: من هذا ؟ فقيل: هذا غلام من بني عبدالمطلب، فقلت: من هذا الذي يرميه بالحجارة، فقيل: عمه عبد العزّى، أبو لهب، بن عبدالمطلب (مصنف ابن أبي شيبة 41\003، ابن خزيمة 1\28، الحاكم 2\216 وصححه ووافقه الذهبي)
12. الأقربون أولى بالمعروف؛ فأقاربك أولى الناس بخيرك وبرِّك وأعظم الخير والبر دعوتهم إلى الإسلام الصحيح وتربيتهم عليه (وأنذر عشرتك الأقربين.)
ومن حصل قدرا لا بأس به من العلم تأكد في حقه بذل جل وقته للتعليم وخاصة في هذا الوقت الذي بلغت ضرورةُ الناس لتعلم ما لا يسع جهلُه غايتَها، فقد يأثم مَن أعطي علما وانزوى عن تعليمه.
13. لا تحقرن من المعروف شيئا؛ فأيّ عمل خير وأي مسألة بذلتها وعلمتها ستجده عند الله سبحانه إن صحت النية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بلغوا عني ولو آية) (لَأَن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) فلا ينبغي للإنسان أن يترك ما يعرِفه لعجزه عما لا يعرِفه، فلا يكلّف الله نفسا إلا وسعها: (فاتقوا الله ما استطعتم)
14. لا تستوحش من الحقّ لقلة السالكين، ولا تغترَّ بالباطل لكثرة الهالكين، ولا تحمل همَّ الاستجابة وإنما احمل همّ الدعوة والبلاغ، ولا تيأس من عدم استجابة الناس لك واتباعهم إياك فلست أبلغَ من الأنبياء، ولا أكثرَ جهدا منهم، ومع ذلك يأتي يوم القيامة بعضُهم وليس معه إلا رجل، وبعضهم لم يتّبعه أحد، قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت النبي وليس معه أحد.)
15. لا تنتظر من الناس عند دعوتهم أن يستقبلوك بالورود والرياحين فلست خيرا من الأنبياء أو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحرَصَ على هداية الناس منهم ومع ذلك ضُرِبوا وأوذوا، ففي المتفق عليه عن ابن مسعود: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (وفي البخاري من حديث خباب في شكايتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. واعلم أنّ كل ما يصيبك مكتوبٌ لك عند الله تعالى، فعن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصَب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غمّ، حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) متفق عليه. وأنه لا يستطيع أحد أن يؤذيك أو يضرك بشيء إلا بشيء قد كُتب عليك، ففي حديث ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)
16. اعلم أنّ غاية دعوة الرسل هي مصلحة العالمين لكي تقوم حياتهم بالقسط في الدنيا وينعَموا برضاء الله والجنة في الآخرة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ومبنى الشرائع على تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإنه لا نعيم ولا لذة ولا ابتهاج ولا سعادة ولا كمال ولا فرح ولا سرور إلا بطاعة الله ومحبته وهذه جنة الدنيا من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
فأهل السنة والجماعة هم أعلمُ الناس بالحق وأرحمُهم بالخلق.
17. تربية النفس وتربية النّشء على التسليم والاتباع والسمع والطاعة، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا اعتراض على أمره ولا تولي عن طاعته، كما ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فكانوا خيرَ أصحاب وحواريين، كما كان نبيهم خير نبي ورسول، آمنوا بالله ورسوله الإيمان الصادق الحيّ الذي أثنى الله تعالى عليهم به في كتابه. وما عرفوا فلسفةً ولا نظرياتٍ ولا جدلا وإنما هو الطاعة في المنشط والمكره، والصبر في الرخاء والشدة، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد. فأعمالهم كلُّها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربا من ذمهم.
وأكثرُ ما يبتعد الناس ابتعادُهم عن من يثير الاشكالات والشبه لديهم، ويضيعُ وقتهم في البحث عن إجاباتٍ لها وهم لم يحكموا أبجديات العلوم، ولم يتعلموا ما يصحّحون به عباداتهم.
18. الحذرَ من التعصّب ضدّ التعصّب فيحمل على الوقيعة في أعراض العلماء. كمثل الذين يقعون في أبي حنيفة رحمه الله، وقد أفضى إلى ربه، وهو عند الأمة إمام متبوع، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أنتم شهداء الله في أرضه أنتم شهداء الله في أرضه أنتم شهداء الله في أرضه) ومن شهد له أربعة وثلاثة واثنان. وأبو حنيفة لن يعدم أن يشهد له ملايينُ المسلمين.
وهذا طرف والطرف الآخر من يظن أنّ الحق محصورٌ في قول فلان أو مذهب فلان. والصوابُ أنّ الحق موزّع بين الأمة. ومن قال إن الحق محصور في مذهب أبي حنيفة أو غيره يُستتاب كما ذكَر شيخ الإسلام.
19. إنّ هذا الدين لا يتحقق في حياة الناس إلا بأن تحمله مجموعة منهم تؤمن به إيمانا صادقا، وتستقيم عليه بقدر طاقتها، وتجعله وظيفةَ حياته وغايةَ آمالها، وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة. (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)
واعلم أخي الكريم أن هذه وظيفة الأنبياء، ولا يستطيع أن يسلك طريقها إلا من جاهد نفسه وحملها على طاعة الله ورسوله، قال الله تعالى: (والذين جاهدو فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) فجاءت هداية الله تعالى لهم إلى طريق الحق بعد أن جاهدوا أنفسهم على سلوكه.
وفي الحديث القدسي أنّ محبة الله تعالى لعبده جاءت بعد ما حمل نفسه على التقرب إليه بالنوافل (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ثم جاء التأييد بعد ذلك (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري. ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى: الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: (يا معاذ، والله إني لأحبك؛ فلا تنس أنت تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) قال شيخ الإسلام: (تأمّلتُ أنفع الدعاء: فإذا هو سؤال العون على مرضاته. ثم رأيته في الفاتحة في (إياك نعبد وإياك نستعين) المدارج 1\87
ولاشك أنّ في هذا إكراهاً للنفس في بداية الأمر، وفي المتفق عليه عن أبي هريرة (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)
20. لابد من الزاد الأصليّ لمن يريد حمل الدعوة والمقارعة فيها زاد الصلة القوية بالله تعالى والتزكية الروحية بالتقرب إليه ومناجاته في أرجى ساعات المناجاة وأصفاها.
21. علينا لكي نرتقي بأنفسنا وأمتنا أن نجتاز عقبة شائكة يعترضها ثلاثةٌ وسبعون طريقا. الطريق المنجي منها طريق واحد فقط وما عداه مهلكة، وهذا الطريق الوحيد هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نجزِم عن دين ويقين أنه منهجُ الفرقة الناجية الذي لا يقبل الله سواه.
والعجيب أنّ النظرة الغالبة على كثيرٍ من شباب الدعوة اليوم هي أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تعدو أن تكون تصوُّرات نظرية صحيحة لعالم الغيب وقضايا الاعتقاد وليست مع ذلك منهجا للدعوة والاصلاح والتغيير.
وأكبر سبب في هذا الفهم القاصرِ هم حملةُ هذه العقيدة الذين لم يوضحوا معالمها ويكشفوا للناس عن كمالها الذي هو حقيقة كمال الإسلام نفسه.
22. إياي وإياك والمعاصي فإنها تميت القلب، وتمحق الرزق، وتطفئ نور العلم، وتقطعك من لذة العبادة، وتُحرم بها خيرا كثيرا.
وقال سفيان في وصيته لأحد إخوانه: (… وترك الذنب أيسرُ من طلب التوبة.. ولا تتهاون بالذنب الصغير ولكن انظر من عصيت ؟) الحلية 7\42
قال رجل لسفيان: (أوصني، قال: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها والسلام) الحلية7\65
قال سفيان: (حُرمت قيامَ الليل بذنب أحدثته خمسة أشهر) الحلية 7\71
قال ابن مسعود: (إنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال له هكذا فطار.) متفق عليه.
وقال: (إني لأحسِب الرجل ينسى العلمَ كان تعلمه، للخطيئة يعملها) وجاءه رجل وقال: يا أبا عبد الرحمن: علمني كلماتٍ جوامعَ نوافع. فقال: اعبُد اللهَ ولا تشرك به شيئا، وزُل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا، ومن جاءك بالباطل فاردُد عليه وإن كان حبيبا قريبا.) الحلية
وقال البخاري: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
“واعلم أخي الكريم أنك لا تخلو أن تكون عصيت الله في عمرك، أو أطعته.
فأين لذّة معصيتك ؟ وأين تعب طاعتك ؟ هيهات رحل كلّ بما فيه، فليت الذنوب إذ تخلت خلت، واعلم أخي الكريم أنّ مَن قارَب الفتنة بعُدت عنه السلامة. ومن ادعى الصبر وُكِل إلى نفسه ورب نظرة لم تناظر ! وأحق الأشياء بالضبطِ والقهر اللسانُ والعَين”. (صيد الخاطر 31ـ 41)
“وأعظم المعاقبة أن لا يحُسّ المعاقَب بالعقوبة. وأشدّ من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة، كالفرح بالمال الحرام، والتمكن من الذنوب ومن هذه حالة لا يفوز بطاعة.
فأول العقوبات الإعراضُ عن الحق شغلا بالخلق.
ومن خفيّ العقوبات سلبُ حلاوةِ المناجاة ولذة التعبد” (صيد الخاطر 41ـ51)
23. لابد من المشقة في عملك ودعوتك فتحمّل ذلك، ومن أحب تصفية الأحوال، فليجتهد في تصفية الأعمال. قال الله تعالى (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا)
وفي الأثر (البر لا يَبلى، والإثم لا يُنسى، والديّان لا ينام، اعمل ما شئت فكما تدين تُدان)
وقال أبو سليمان الداراني: (من صفا صُفي له، ومن كدّر كُدّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله)
وكان شيخ يدور في المجالس ويقول: (من سره أن تدوم له العافية، فليتق الله عزّ وجل)
وكان الفضيل بن عياض، يقول: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي، وجاريتي.
واعلم ـ وفقك الله ـ أنه لا يحُسّ بضربةٍ مُبَنّج، وإنما يعرف الزيادة من النقصان المحاسب لنفسه.
ومتى رأيت تكديرا في حال فاذكر نعمةً ما شكرتَ، أو زلةً قد فعلت، واحذر من نِفار النعم، ومفاجأة النقم، ولا تغترّ بسعة بساط الحلم، فربما عجل انقباضه.
وقد قال الله عز وجل: (إن الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم)
وكان أبوعلي الروذاباذي يقول: من الاغترار أن تسئ فيحسن إليك، فتترك التوبة، توهما أنك تسامح في الهفوات. (صيد الخاطر 81)
24. الدأب والصبر والمثابرة على طلب العلم: قال مالك: (كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه)
واعلم أنّ العلم يطلب من أجل العمل:
أخرج الطبري بإسناد حسن عن شقيق، عن ابن مسعود قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن) سير أعلام النبلاء
يقول مالك: (ما تعلمت العلم إلا لنفسي، وما تعلمت ليحتاج إلي، وكذلك كان الناس.)8\06
قال عبدالله بن داود سمعت الثوري يقول: (إنما يطلب العلم ليتقى الله به فمن ثَمّ فُضّل، فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء) الحلية 6\263
قال عبدالرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث قط إلا عملت به، ولو مرة. سير أعلام النبلاء 7\242
ـ والزم منهجَ الورع في الفتيا. ولما كانوا يطلبون العلم لتزكية النفوس كانوا أبعد الناس عن الفتوى.
قال ابن وهب: لو شئتُ أن أملأ ألواحي من قول مالك: (لاأدري) لفعلت.السير 8/96، قال مالك: (جُنّة العالم لا أدري فإذا أغفلها أصيبت مقاتله)
قال الهيثم بن جميل: سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب في اثنتين وثلاثين منها ب(لاأدري)896\
وقال مالك قال عبدالله بن يزيد بن هرمز: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: (لا أدري) حتى يكون ذلك أصلا يَفزَعون إليه.
عن خلف بن عمر أنّه سمع مالكا يقول: ما أجبتُ في الفتوى حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل تراني موضعا لذلك ؟ سألت ربيعة، وسألت يحي بن سعيد فأمراني بذلك. فقلت: فلو نهوك ؟ قال: كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه.
قال مالك: ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك.
فينبغي تركُ المسائل النظرية التي ليس تحتها عملٌ فلا تشتغل بها قراءةً، ولا نقاشا، ولا طرحا في الدروس.
عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: والله لئن يبتلي المرء بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك به خير له من النظر في الكلام. [3]
25. عليك باللين والرفق واجعل هذه الأحاديثَ نُصْبَ عينيك في كلّ حال، وفي جميع تعامُلك مع الموافقين والمخالفين (مه يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق)، (إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي عن الشدة) (إنما بعثتم مبشرين ولم تبعثوا منفرين)، واعلم أن الذي يَقبل من الحق المسألتين خيرٌ من الذي لا يقبل إلا مسألة، والذي يقبل مسألةً خير من الذي لا يقبل شيئاً، ولاتيأس من رَوْح الله، واعلم أن نبيا يأتي يوم القيامة وليس معه أحد(رأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد)
26. احذر الخلافَ؛ فإنّ الخلاف شرٌّ كله، ولم يأت الخلاف قطّ في معرِض مدح في الكتاب والسنة، واعلم أنّ الخلاف المنهيّ عنه هو ما أحدث فُرقة، وقد اختلف الصحابة في كثيرٍ من المسائل وما تقاطعوا بسببها، ولا يَستجرَّنك أحد إلى المواجهة مع الناس (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)
واعلم أنّ الاجتماع هو الأصل، والاختلاف والافتراق طارئ ومذموم، وقد تجد كثيرا من الناس عنده استعدادٌ للخلاف بل رغبةٌ فيه، فهو يفتعل الخصومة!، عنده استعدادٌ لمشاتمتك على أيّ شيء حتى لوكنتَ تخالفه في مسألة فقهية، أو في حلّ قضية أو مشكلة، أو تحليل لخبرٍ أو غير ذلك مما تختلف فيه وجهات النظر على حسب الاجتهاد المعرفة بالأحوال.
ثم تجد من ينزل هذه الأفكارَ منزلة النصوص القطعية التي لا تقبل الجدال ولا المناقشة.
وهذا بسبب ضيقِ الأفق، وقِصَر النظر، والجهلِ بمسائل الخلاف وآدابه، والولعِ بالخصومة وافتعال الخلاف بسبب أو بغير سبب. وتركوا الساحة لعدوِّهم يفعل بالناس ما يشاء، وعامة الناس ما علموا عن هذا المسائل الخلافية؛ فهم يجهلون الأصول التي طواها عنهم هؤلاء المختلفون وشُغلوا بأنفسهم عن المسؤولية الواجبة عليهم تُجاه هؤلاء العامة!.
والعجيب أنك لا تلتقي أحداً من المسلمين إلا وهو يكره الخلاف ويريد الوحدة، فقل له هل تقصد الوحدة أخي الكريم على أفكارِك واجتهاداتك ونظراتك، فكأنك تطلب الوحدة عليك.
هناك ضوابطُ للوحدة وكلها محل اتفاق: الكتاب والسنة وسلف الأمة. فلا تجمع الناسَ على نفسك ولكن اجمعهم على الإسلام.
27. لا تنصب نفسك مقوِّما للناس، واقبل من محسنهم وتجاوز عن مُسيئهم؛ فإن هذا خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنّ عَيب الناس لا يَبني شيئا، وإنما يبني الدعاء والنصيحة، واجعل هذا الحكمَ نصب عينيك:
من الذي ماساء قط * ومن له الحسنى فقط
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلُّها * كفى المرءَ نبلا أن تُعَدّ معايبه
28. لا تنتصر لنفسك أبداً، واجعل غضبك ورضاك لله وحده تَفُز وتسترح. وانظر سيرة شيخ الإسلام مع مخالفيه، ورسائلَهُ وهو في السجن وكيف أنّه لم ينتصر لنفسه، فنصره الله.
قال رجل لسفيان الثوري: (أنت قدري ؟ فقال سفيان: إن كنت قدريا فأنا رجل سوء، وإلا فأنت في حل) الحلية 7\33
29. إياي وإياك من الغيبة والنميمة؛ فإنها تمحق الأعمال، وتمرض القلوب، وتضعف العمل، وتذَكّر حديث أتدرون من المفلس._
قال الليثُ بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إلي بالعلم كله. فكتب إليه: إنّ العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميصَ البطن من أموالهم، كافَّ اللسانِ عن أعراضهم، لازما لأمر جماعتهم، فافعل. سير أعلام النبلاء 3222\
واحفظ لسانك من قالة السوء، فإنّه أكثر ما يدخل النار من الأعضاء وارع حقوق العباد عليك. ولا تنصب نفسك حكَما عليهم.
وقد نفى الله الخيرَ عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم، فقال: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)
وعليك بغراس الجنة (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، الترمذي عن ابن مسعود.
وتذكر خطَر الخوض في أعراض المسلمين حيث جاء التحذيرُ الشديد في حجة الوداع (إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام)
وقال تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم)
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل ؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) متفق عليه.
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من يضمن لي مابين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة ؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتَبْته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتّه) رواه مسلم.
ومما ينبغي للعاقل أن يترصّد وقوعَ الجزاء، فإنّ ابن سيرين قال: عيرت رجلا فقلت: يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة. صيد الخاطر ص52
كيف تُهدي حسناتك إن كانت لك حسناتٌ لأناس قد لا ترغب فيهم، وكيف تتحمل من أوزارهم، أعد للسؤال جوابا، وللجواب استعدادا.
عن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مِن أربى الربا الاستطالةَ في عرض المسلم بغير حق) أحمد وأبوداود.
ومن المتفق عليه أن من شُغل بالخلق نسي عيوبه.
وذكر رجل عن الحسن فقال: (مارضينا عن أنفسنا بعد)
30. أكثر من القراءة في سير السلف وإن استطعت أن لا يمر عليك يوم إلا وتقرأ عنهم فافعل فإنهم التطبيقُ العملي لتعاليم الإسلام، ومن أسباب التثبيت على الخير.
31. اعلم أنك ـ إن شاء الله ـ في دعوتك وعملك في عبادةٍ ما صدقت الله، ومن الخطأ والعيب في المسلم أن يمل عبادةَ ربه، واعلم أنه ليس للمسلم وطنٌ بعينه، وإنما بلده الذي يعبد فيه ربه ويقيم فيه دعوته.
32. اعلم أخي الكريم أنّ هذه الأمة مأمورة بحمل تكاليف هذا الدين، كلُّ حسب قدرته واستطاعته، وما يفتح الله عليه من طرق الخير الواسعة، فكلّ مجموعة أو فرد حَمَل فرض كفاية عن الأمة فقد رفع الإثم والحرج عنها، فينبغي أن نثبّته وندعوَ له، لا أن نثرِّب عليه ونخطِّئه؛ لأنه سلك غير طريقنا ونهج غير منهجنا، فنحمله على ما نريد، فإنّ الأمة منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكل شخص قائم بعمل قد لا يقوم به الآخر، ولم يثرّب أحد على أحد في ذلك، فمعاذ أعلمكم بالحلال والحرام، وأبي أقرؤكم، وخالد سيف الله المسلول، فلم يقل خالد يوما ما لمن لم يخرج معه أنتم جلستم وتركتم الجهاد واستأثرتم بالنبي صلى الله عليه وسلم تكتحل أعينكم برؤيته صباح مساء، ولم يُذكر عن معاذ أو غيره أنه قال لخالد أنت شُغلت بالسيف وتركت ميراث النبوة!!
واعلم أنّ ابواب الخير كثيرة وينبغي على الإنسان أن يفعل ما يقدر عليه منها، ولا يثرّبَ مجتهدا في واحدة منها، ولا يُلزِمَ الناس بسلوك طريق الخير الذي سلكه ما كانوا على بابٍ آخر من أبواب الخير.
وتمعن في رسالة مالك إلى عبدالله العمري لما أرسل إليه يحضه على العزلة والانفراد فكتب إليه مالك يقول: “إن الله قسّم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البرّ، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير (السير 8\411_
وقال شيخ الإسلام ـ لما سئل عن الأسباب التي يتقوّى بها الإيمان ـ: (الناس يتفاضلون في هذا الباب فمنهم من يكون العلمُ أيسرَ عليه من الزّهد، ومنهم من يكون الزهدُ أيسرَ عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدَّم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدرَ منه على الفاضل، ويحصل له أفضلَ مما حصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقا، إذا كان متعذرا في حقه أو متعسرا يفوته ما هو أفضل له وأنفع، كمن يقرأ القرآن فيتدبره وينتفع بتلاوته، والصلاة تثقل عليه، ولا ينتفع منها بعلم، أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة، فأيّ علمٍ كان له أنفع ولله أطوع أفضلُ في حقّه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه، بل على وجه ناقص، ويفوته ما هو أنفع له) الفتاوى 7\156ـ256
وقال ابن القيم: .. فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريقَ العلم والتعليم، قد وفّر عليه زمانه مبتغيا به وجه الله..
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكرَ وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله..
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلمَ عليه وقته، وضاق صدره، ومن الناس من يكون طريقه الإحسانَ والنفعَ المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وأنواع الصدقات.
ومن الناس من يكون طريقُه الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه.
ومنهم من يكون طريقه قطعَ العلائق، وتجريدَ الهمة، ودوامَ المراقبة، وحفظَ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله تعالى في كلّ واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلةَ قلبه، ونصب عينه يؤمُّها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهمٍ، فأين كانت العبودية وجدْتَه هناك، إن كان علمٌ وجدته مع أهله، أو جهادٌ وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكرٌ وجدته في الذاكرين، أو إحسانٌ ونفع وجدته في زمرة المحسنين.. يَدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال ؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامرَ ربي حيث كانت (طريق الهجرتين 871ـ 971، مدارج السالكين 3\71، الفوائد ص83
33. اجعل نصب عينك (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) الحديث 21 من النووية قال ابن رجب: (ومعنى هذا الحديث أنّ مَن حسُن إسلامه ترَك ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال عناه يعنيه: إذا اهتم به وطلبه..) جامع العلوم والحكم 1\882
ومن العجيب المشاهدِ أنك ترى الرجل الذي يَشغَل نفسه بما لا يَعنيهِ يفرط ويترك ما يعنيه.
34. واعلم أنّ المسلمين هم الأصل في هذه الأرض وهم الذين ينبغي أن تَدين لهم الشعوب جميعا لما يحملونه من نورٍ وخير لهم، وأنّ الأصل في وجودنا جميعا هو تحقيق عبودية الله في أرضه (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون)، وأننا نحن المسلمين ورِثنا رسالةَ نبينا صلى الله عليه وسلم وهي النور والسعادة، والناس يعيشون في ظلمة وشقاوة، فيجب علينا تبليغُ هذا الدين للناس كافة.
35. علينا بكثرة المراجعة لما لدينا من أفكارٍ واجتهاداتٍ ونظرات، وأن يكون عندنا تقبّلٌ للنصح، وقدرةٌ على التراجع متى بان لنا الحق، وأن لا نأنَفَ من الحق أنى وجدناه؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. واعلم أنّ الاستشهاد بقول أحدٍ لا يعني إقرارَه على جميع أقواله والرضا عن جميع أفكاره، والعجبُ أنك إذا ذكرت بيتا أو حكمة عن بعض أهل الجاهلية لا تجد أحدا يُنكر عليك، ولكنك لو نقلت نصّا عن أحد الدعاة والمصلحين استغربوا ذلك منك، وكأنهم يظنون أنك تقرُّه على جميع أفكاره وتصوُّراته بنقلك عنه.
36. التميز بالإسلام لا بالأسس الجاهلية. فنحن لا يهمُّنا من فلان لونُه ولا جنسه ولا بلده وجنسيته (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
37. التحرُّر من ربقة الدعاية:
شاع في الإعلام تعبير رجل الشارع، ويقصد به عامة الناس مَن يتلقّى الأخبار ولا شأن له في صناعتها ولا التأثير عليها، وإنما يقول بالنيابة عنهم ويفكر بالنيابة عنهم، بل يوقّع بالنيابة عنهم، وأصبح كما يقال:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم * ولا يستأذنون وهم شهود
ومع الأسف أصبح عامة المسلمين بل جمعٌ من طلاب العلم يصحّ أن يُطلق عليهم مصطلحُ رجل الشارع، وذلك أنهم يتحدثون بما يلقى في أجهزة الإعلام، ويخوضون فيما في الساحة ولا شأن لهم بالتغيير ولا صنعِ القرار الخ، مع العلم أنّ هذا العمل يعارض ثوابت مقررّةً عند المسلم ولا يجوز أن يتنازل عنها، ومن هذه الثوابت -التي لو تمسك بها المسلم وجعلها نصبَ عينيه لارتفع عنه هذا اللقب- التثبتُ والتبيُّن وعدم الاستعجال. ولكنّ عددا من الشباب لا يريد أن يكلف نفسه في ذلك، فيتسرع في أخذها من أفواه الأخرين، ولا سيّما إذا تطلب ذلك بحثاً في الكتب.
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) قال السعدي: (هذا تأديبٌ من الله لعباده، عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم، إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر. بل يردُّوه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي، والعلم والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.. وفيه النهي عن العجلة والتسرع، لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيقدم عليه الإنسان، أم لا؟ فيحجم عنه؟
ثم قال تعالى:(ولولا فضل الله عليكم ورحمته) أي في توفيقكم، وتأديبكم، وتعليمكم مالم تكونوا تعلمون. (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)لأن الإنسان بطبعه، ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر، فإن لجأ إلى ربه واعتصم به، واجتهد في ذلك، لطف به ربه، ووفقه لكل خير، وعصَمَه من الشيطان الرجيم. لقد أصبح عند كثيرٍ قابليةٌ للتأثر بالدعاية، وراجت على عقولهم كثرةُ العرْض والكلامِ حتى أصبح الكذبُ من الحقائق المسلمة عندهم.
38. عدم التعلق بمخلوق:
لا تتعلق بأيّ مخلوق أو أيّ نظام من الأنظمة البشرية، واحرِص على الاتكال التامّ والكامل على الله مع الأخذ بالأسباب، (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)، إن الكفار اتخذوا من دون الله آلهةً رجاءَ النصر لهم (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون)فقال الله:(لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)
انظر إلى أنبياء الله! التجاؤهم وطلبهم دائما إلى الله تعالى؛ لأنه الذي بيده كل شيئ (قال رب انصرني بما كذبون) (قال رب انصرني على القوم المفسدين)، فهذا نبي الله نوح بعد ما استفرغ وُسعه في دعوته وبذل كافة الأسباب (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعاء إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا)، فهل تخلّى عنهم بعد ذلك ؟ لا، إنه لم ييأس منهم، بل غيّر في أسلوب الدعوة لعل ذلك يجدي: (ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا..) (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)، فماذا كان وماذا حدث: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر)، (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)
39. إنّ من طبيعة هذا الدين عدمَ ارتباطه بمخلوق حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد قال بعض الصحابة يوم أُحد: قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى: (وما محمّدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وصُدِم الناس بموته وشدهوا قرأ عليهم أبوبكر هذه الآية؛ فالعالم إن أصيب في نفسه فهذا خير له ورفعة في درجاته، وقد قضى ما عليه، وبقي حمل الدعوة على أصحابه وأتباعه، فليس في الإسلام إلا العمل والجد، ولا يعرف البكاء والعويلَ والتمسّح على عتبة فلان، أو على فراق فلان أو حزنا على سجن عالم أو داعية، وإن كان له من حقّ الدعاء والحبّ والوفاء والفداء إلا أن من حبه القيامَ بوظيفته من بعده.
40. تحريرُ الولاء والبراء: بأن يكون لله وبالله وفي الله: فلا يكن ولاؤتنا متعدداً، فلا ننصبُ حدثا أو واقعةً ونجعلُها مدارَ الولاءَ والبراء، فمن كان معنا فيها فهو مِنّا، ومن خالفنا فهو عدوّنا، فيصبح ولاؤنا حسب الطّقس السياسيّ والإعلاميّ كما يقال.
قال شيخ الإسلام: (على المؤمن أن يعادي في الله ويوالي في الله. فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية. قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما) وقال: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) فجعلهم إخوة مع وجود القتال وأمر بالإصلاح بينهم..
وإن اجتمع في الرجل خيرٌ وشر، وفجور وطاعة، ومعصية، وسنة وبدعة. استحَقّ من المولاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسَب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة. كاللص تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال مايكفيه لحاجته.
هذا هو الأصلُ الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة. وخالفهم الخوارجُ والمعتزلة ومن وافقهم) انتهى
41. مخالفة إخواننا لنا لا يسوِّغُ التخليَ عنهم:
إن مخالفة إخواننا لنصائحنا وعدم اعتبارهم بها لا يعنى التخلية بينهم وبين عدوِّهم؛ فهذا انتصار لأنفسنا وليس انتصاراً لله ورسوله؛ فالصحابة اختلفوا في قتال المرتدين مع أبي بكر ومع ذلك لم يتخلَّوا عنه وينفِّروا منه، وقصة عمر مع عياش لما نبذ وصيتَه ورأيه لم يتركه لنفسه؛ فإنه لما اعتذر عياشٌ بقَسَم أمه قال له عمر: والله إن القوم إن يريدون إلا إياك؛ إن أمك لو آذاها القملُ لامتشطت، ولو اشتدت عليها حرارة الشمس لاستظلّت، فقال أبرّ بقسَم أمّي ولي مال آتي به، فقال له: أعطيك نصف مالي ولا تذهبْ معهم، فلما رأى أنه متعلق بهم قال له: فإن أبيت فهذه ناقتي سريعةٌ فإن رأيت منهما ما تكره ففِرّ، فلما سمع عمر أنهما أوثقاه وفتناه – وكان المسلمون يرون أنّ من فُتن لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ولا توبة- ونزلت (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمت الله) كتبها عمرُ وبعث بها إلى عياش. وقال تعالى عن المؤمنين الذين خالفوا وتركوا الهجرة (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)
42. استعن في جميع أمورك بالله تعالى، وأكثِرْ من الدعاء في جوف الليل، واجعل لنفسك وِردا دائما من كتاب الله عزّ وجلّ حفظا وتدبّرا، قال ابن وهب: قيل لأخت مالك: (ما كان شُغل مالك في بيته؟ قالت المصحف، التلاوة.) ص99،وحافظ على الأوراد الصحيحة في كل حالّ وخاصة عند الصباح المساء.
43. الصبرُ وعدمُ استعجال الثمرة، مع تحمّل أذى الناس، وجفاءِ المحبين، ونسيان الطلبة للجميل؛ فنحن نتعبد الله تعالى بالعمل لا نريد من أحد جزاءً ولا شكورا.
هذا ما حضرني من الوصية مما أحببت التذكير به ولا أزعم أنه يخفى عليكم ولا هو جديد على ما عندكم ولكنه ذكرى ومنارات يجد فيها العبد بين الفينة والأخرى ما يكون له زادا فيما هو بصدده من أمر العلم والتعليم وإصلاح النفس وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1] رواه ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي ، ص 182 ؛ ورواه أبو نعيم في الحلية 9 /111 ؛ وابن عساكر في ( تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري ) ص 335 ؛ ورواه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي في كتابه ( الحجة على تارك المحجة ) ، ص 50 ؛ ورواه أبو الفضل المقري في ( ذم الكلام ) ( ق 2 /2 ) .